
قبلة عند جدار برلين: ديفيد بوي وأغنية الأبطال

مروة صلاح متولي
صدرت أغنية Heroes لديفيد بوي عام 1977، أي قبل سقوط جدار برلين، بما يزيد على عشر سنوات، تعد هذه الأغنية من الإبداعات والأعمال الفنية التي استشرفت وتنبأت بسقوط الجدار، أو على الأقل عبرت بشكل أو بآخر عن الرغبة في ذلك، ولامست مأساة الانقسام. جاءت الأغنية ضمن ألبوم بالعنوان نفسه، كان أحد الألبومات الثلاثة المعروفة بثلاثية برلين في قائمة أعمال ديفيد بوي. على الرغم من إنكليزية ديفيد بوي المحضة، إلا أن فترة إقامته الطويلة في برلين جعلته مرتبطاً في ذاكرة ومخيلة الكثيرين بألمانيا، هذا بالإضافة إلى الأغنيات الكثيرة التي قام بتسجيلها في الاستوديوهات الألمانية، والعديد من الحفلات الموسيقية التي أحياها هناك.
استلهم ديفيد بوي أغنيته عندما رأى عاشقين يقبلان بعضهما عند جدار برلين، وأبدع هذه القطعة الفنية الرائعة، التي تعد من أجمل أعماله الغنائية، ومن أهم وأشهر الأغنيات على الإطلاق. بالطبع تفرد بوي في صياغة تعبيرات الأغنية ورسم صورها، فهو لم يكن مغنياً وموسيقياً فحسب، وإنما كان مبدعاً متعدد الوجوه، صاحب خيال مشتعل، يكتب ويرسم ويخلق عوالم غريبة ويجسد شخصيات مختلفة، ويروي قصصاً غامضة يمرر من خلالها أفكاره الفلسفية، ويعيد اختراع نفسه من خلال شخصيات مسرحية، وهذا من ملامح عبقرية ديفيد بوي وأسرار تميزه وفرادته، بالإضافة إلى أنه كان يمتلك صوتاً من أجمل الأصوات الغنائية وأسلوباً مدهشاً في الأداء في عالم الروك.
هذا التداخل بين الأجناس الفنية جعل من ديفيد بوي أكثر من مغن وموسيقي، بل إننا مع ديفيد بوي نستطيع أن نجد المزيد من تعريفات الغناء والموسيقى والفن بشكل عام، وعلى الرغم من غموض بعض أعماله، واعتماده على أسلوب معقد في الكتابة، وذهابه نحو التعبيرات والرموز والصور السريالية الصعبة، إلا أن ذلك الغموض لم يكن منفراً لجمهوره الشاسع في جميع أنحاء العالم، بل ربما ترك لكل مستمع المساحة الخاصة التي يمارس فيها التأويل، والبحث عن المعنى الذي سيجده بكل تأكيد.
ذات يوم كان ديفيد بوي يجلس في ستوديو هانسا في برلين الغربية، وبينما كان يتطلع من النافذة، رأى صديقه المنتج توني فيسكونتي يقبل عشيقته عند جدار برلين، رغم الأجواء الخطرة والمراقبة العسكرية، رأى بوي في هذا المشهد رمزاً لقوة الحب والمقاومة والتمرد على الواقع، والرغبة في الالتئام والالتحام في ظل الانقسام والانشطار، ويقال إن بعض التعبيرات في الأغنية مستوحاة من أعمال إبداعية بصرية وأدبية. «سأكون ملكاً وستكونين ملكة» يقول ديفيد بوي مانحاً الحب طابعاً أسطورياً، وممجداً فكرة الانتصار اللحظي كما لو كان انتصاراً ملكياً، ويقول في عز الحرب الباردة وذروة الانقسام «يمكننا هزيمتهم»، فالحب هنا يهزم الجدار والسلطة والقمع وحتى الزمن، الذي سيفرق العاشقين وسيحكم على علاقتهما بالزوال ولو بعد حين، يستطيع الحب أن يهزم كل هذه الأمور ولو للحظة عابرة، أو «ليوم واحد فقط»، وهي العبارة التي تتكرر في الأغنية، حيث يقول بوي: نستطيع أن نكون أبطالاً ليوم واحد فقط. فرغم نشوة الانتصار المؤقت أو الخيالي، هناك الوعي بالواقع وإدراك مدى سطوته، وإمعانا في هذا الوعي بالواقع يقول إنهما قد يكونان حبيبة قاسية وحبيب مدمن على الكحول، لكنهما في النهاية عاشقان وتلك حقيقة لا يمكن إنكارها، فالمثالية ليست شرطاً من شروط الحب، ويمكن لعلاقات الحب أن تكون قوية وصلبة رغم العيوب والتعقيدات.
في الأغنية توق كبير إلى الحرية يتمثل في تمني القدرة على السباحة كالدلافين، حيث الانطلاق وتجاوز الحدود، كما تمد الأغنية سامعها بشحنة كبيرة من الأمل والقوة والإيمان بالحب والقدرة على الانتصار، على الرغم من بعض لمحات مأساوية تحيط بهذا الحب، لكن لحظة عاطفية أو قبلة واحدة بين عاشقين تستطيع أن تنتصر، وفي الأغنية كذلك روح التحدي والتمرد على الواقع وقيوده المفروضة، ومواجهة الخوف والخطر، وقد أضحت بمثابة نشيد يجسد قوة الأمل وروح التحدي، ورمز للمقاومة في ظل الظروف القاهرة والوقوف في وجه الصعاب والأزمات. فهي أغنية تمثل الجانب القوي الصلب من الحب، وليس الجانب الهش الرقيق، حيث تتناول تلك القوة الخارقة التي يطلقها الحب في نفوس العاشقين.
كما يكرر بوي عبارة «ليوم واحد فقط» يكرر أيضاً قول «إلى الأبد»، هذا التناقض يعكس الرغبة في الخلود والانتصار الأبدي مع الاعتراف بحتمية الفناء وإمكانية الهزيمة. تربط الأغنية بين الحرية والحب، فالبطولة أحياناً تكمن في أن يكون الإنسان نفسه ولو ليوم واحد فقط، وأن يتحرر من القيود التي تكبله.
القبلة تحت الرصاص
يمكن القول إن المقطع الذي يتم فيه ذكر القبلة هو قلب الأغنية ويمثل ذروتها الدرامية والغنائية والموسيقية، حيث يصف بوي الوقوف بجانب الجدار وتقبيل الحبيبة بينما كان الرصاص يطلق فوق رأسيهما، تلك اللحظة ترفع الأغنية إلى مستوى آخر من ناحية الرمز واختلاط الرومانسية بالمأساة والمقاومة بالأمل، هنا نكون أمام صورة أو مشهد درامي متكامل، عاشقان يقفان إلى جانب جدار برلين في ظل خطر محدق، يتطاير الرصاص من فوقهما، لكنهما بدلا من الهرب والاختباء، يقفان ليتبادلا القبلات في تحد للموت وللجدار نفسه بكل ما يمثله، وربما للزمن أيضاً من خلال التشبث باللحظة دون التفكير في أي شيء آخر، أو أي عواقب. كما أن القبلة هي رمز الوحدة رغم الانقسام والحواجز. وإلى جانب دقة هذا المشهد وبراعة تصويره بالكلمات، فإن صوت بوي وتحوله الدرامي عند أداء هذا المقطع يصيب إحساس السامع في الصميم.
تسير الأغنية في خط تصاعدي مستمر لا يتوقف، سواء على مستوى طبقة الصوت والأنغام والإيقاعات، وكذلك على مستوى الإحساس الذي يتراكم ويتراكم حتى يصل إلى درجة التفجر الحماسي والعاطفي، حيث تبدأ الأغنية بصوت هادئ ثم تتصاعد تدريجياً، ويتحول صوت بوي من الهمس في بعض الكلمات إلى ما يشبه الصراخ عند لحظات معينة، ترتفع الأغنية بسامعها درجة تلو الأخرى وتحلق به شعورياً، وهي تسير في تصاعدها المستمر كما لو كانت تواجه قوة هائلة وتدفعها دفعاً.
تم تسجيل الأغنية في برلين الغربية بالتعاون مع براين إينو وتوني فيسكونتي، حيث قام ديفيد بوي بتأليف اللحن الأساسي للأغنية، بينما ساهم براين إينو في تطويره، وإضافة العناصر الإلكترونية والتجريبية التي منحت الأغنية طابعها الفريد. كما لعب المنتج توني فيسكونتي دوراً مهماً في تشكيل الصوت النهائي، خاصة باستخدام تقنية التسجيل المتعددة للميكروفونات، ما منح الأغنية ذلك التأثير التصاعدي الملحمي، وجعلها إحدى أكثر الأغاني تأثيراً في تاريخ الموسيقى. فمن أهم ما تتميز به أغنية هيروز طريقة تسجيلها الفريدة، التي اعتمدت على مجموعة من التقنيات الخاصة والجديدة في ذلك الوقت، بالإضافة إلى بناء الأغنية ذاته وتوزيعها، وما تحمله من دفقات شعورية وشحنات حماسية قوية، حتى عندما يغنيها ديفيد بوي في الأداء الحي على خشبة المسرح أمام الجمهور، لا تفقد شيئاً من تأثيرها وجاذبيتها، ونستمع إليها في أكثر من نسخة فنجد بوي يتفنن في الأداء بقدرات صوتية مدهشة، وإحساس خارق للعادة.
كاتبة مصرية