جمهورية الخوف: مرحبا بكم في «ترامبستان»!

جمهورية الخوف: مرحبا بكم في «ترامبستان»!
مالك التريكي
يروي بعض خبراء الاقتصاد الأوروبيين أن معارفهم الأمريكيين من مسؤولي المصارف الكبرى ورجال المال والأعمال صاروا يتهيبون الخوض في موضوع ترامب وسياساته الاقتصادية الخرقاء على التلفون، ويقولون في كل مرة: فلنخض في حديث غيره. ذلك أن الخوف قد صار هو سيد الموقف في عقر دار الديمقراطية الأمريكية العريقة! وصار ذوو الشأن من السياسيين والاقتصاديين وذوو الرأي من الأكاديميين والمحامين يعيشون في قلق وفزع بعد أن تكاثرت حالات التنصت الاستخباري على المواطنين الأمريكيين وتكاثرت حالات الانتقام الترامبي من الأشخاص الذين يتخذون مواقف علنية تدل على أنهم من مرتكبي جريمة حرية الرأي والتعبير.
أما رجل الأعمال الأمريكي الوحيد الذي تجرأ على قول شيء على التلفون، فهو ذلك الذي أسرّ لمخاطبه الأوروبي بأن «الولايات المتحدة صارت دولة مارقة!» وهذا، للتذكير، هو الوصف الذي كان الرئيس بوش الابن قد أطلقه في الأصل على كوريا الشمالية! ولو أن المروق الكوري، أيا كانت مفاجآته، يظل محصور المدى ومحدود الضرر مقارنة بأضرار المروق الأمريكي على الاقتصاد والأمن في العالم. والحقيقة أن المروق على الأصول والأعراف والقوانين، الدولية والأمريكية على حد سواء، قد بدأ منذ بداية عهدة ترامب أوائل هذا العام، ولكنه اتخذ منحى بالغ النزق والشذوذ منذ إعلان «يوم التحرير» الذي ربما يكتشف الأمريكيون بأسرع من المتوقع أنه لم يكن إلا يوم التخريب والتدمير.
والمعروف منذ القِدم أن الخوف يبقى هو الشعور الغالب على الناس في أنظمة الاستبداد. أما أن يشيع الخوف بين مواطني إحدى أعرق الديمقراطيات الغربية فتنقلب سريعا إلى “ترامبستان” المارقة أو “جمهورية الخوف” الشهيرة فذلك هو الدليل على أن ما يقال منذ مدة عن بدء السقوط الأمريكي في مهاوي «البَوْتَنَة» ليس من قبيل المبالغة أو التهويل وإنما هو تقرير لواقع مشهود. والبوتنة هو المصطلح الذي نحته رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز عام 2016 لتحذير دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وأهمها بولندا، من مغبة التنكر للديمقراطية الليبرالية وانتهاج سياسات قمعية مستنسخة عن سياسات فلاديمير بوتين. ولهذا حمل المحتجون على التعديلات التي كانت الحكومة المنبثقة عن حزب القانون والعدالة اليميني في بولندا تريد آنذاك فرضها للقضاء على استقلالية المحكمة الدستورية لافتات تقول: لا لبوتنة بلادنا!
وصار ذوو الشأن من السياسيين والاقتصاديين وذوو الرأي من الأكاديميين والمحامين يعيشون في قلق وفزع بعد أن تكاثرت حالات التنصت الاستخباري على المواطنين الأمريكيين
وإذا كان في هذا الوصف بعض التجني في حالة بولندا تحديدا، نظرا إلى أن حزب القانون والعدالة معروف بمناهضته القديمة للأخ الأكبر الروسي، فإنه ينطبق تمام الانطباق على سياسات فيكتور أوربان في المجر وبنيامين نتنياهو في إسرائيل، علما أن البوتنة تظل مفهومة وغير مفاجئة في كلتا الحالتين لأن المجر حديثة عهد بالتجربة الديمقراطية أصلا ولا يعنيها من عضوية الاتحاد الأوروبي إلا قبض الأموال، كما أن إسرائيل ليست «ديمقراطية» إلا بالمعنى الإثني الأسطوري الأناني الناقض للمُثُل الإنسانية الكلية والحائم حول كل غوايات الغوغائية والطغيان والإبادة، كما تشهد بذلك مفاسد وضلالات لعل أبرزها بقاء الكذاب الأشِر نتنياهو متسمرا في كرسي الحكم على مدى ثلاثين سنة (لم تتخللها إلا إجازات قصيرة). أما الحالة الأمريكية فهي العجب العجاب حقا لأنها تمثل انقلابا كليا من النقيض إلى النقيض. ذلك أن الولايات المتحدة كانت، حتى الأمس القريب، هي مركز المنظومة الديمقراطية الغربية وعماد النظام الليبرالي الدولي الذي ظل قائما طيلة ثمانين سنة.
وتتمثل علامات البوتنة التي اجتاحت الولايات المتحدة منذ عودة ترامب للحكم في العدوان الممنهج على الحريات، وازدراء القانون الدولي والتلاعب بالقانون، وحتى بالدستور، الأمريكي، والانسياق خلف مطامع استعمارية وعنصرية سافرة من جنس ما كان متفشيا في القرن التاسع عشر (من غزة إلى بنما، فكندا، وغرينلاند، وأوكرانيا، إلخ) وتسييس أجهزة الدولة وصولا إلى تسخيرها للانتقام من الخصوم السياسيين والتنكيل بهم بِتَشَفّ رسمي معلن، والخلط بين الصالح العام والمنفعة الشخصية بدون أدنى اعتبار لحقيقة أن منع تضارب المصالح هو أحد أبسط أساسيات النظام الديمقراطي.
أما العلامة الأبرز والأسخف فتتمثل في استفحال داء تعظيم الزعيم بضرب من التملق السوفييتي الفاضح الذي يتنافس فيه الساسة الجمهوريون. والسبب أن لا أحد منهم إلا وهو مُسهَّد خوفا من أن يغضب عليه كاليغولا الأمريكي فينبذه في العراء الانتخابي.
مشهد بائس يائس يكلله دوام التهليل للزعيم في وسائل الإعلام اليمينية التي تظل أقوى شاهد على «انغلاق الذهن الأمريكي».
كاتب من تونس