مقالات
الهوية القومية بين تكريس التجزئة وتجزئتها ووحدة الأمة ورسالتها الخالدة: رؤية لمستقبل الأمة ونهضتها بقلم طارق عبد اللطيف أبوعكرمة -الهدف السودانية –
بقلم طارق عبد اللطيف أبوعكرمة -الهدف السودانية -

الهوية القومية بين تكريس التجزئة وتجزئتها ووحدة الأمة ورسالتها الخالدة:
رؤية لمستقبل الأمة ونهضتها
بقلم طارق عبد اللطيف أبوعكرمة -الهدف السودانية –
في لحظات الأفول الكبرى للأمم، يتحوّل التاريخ من مصدر قوة إلى عبء ثقيل على الوعي، وتغدو الهوية سؤالاً معلقاً بين الإنكار والتشظي.
الهوية القومية هي ذلك الإطار الجامع الذي تتوحد فيه مقومات الأمة – من لغة وتاريخ مشترك، ومجال جغرافي، ووجدان جمعي، وتجربة حضارية – لتُشكّل انتماءً واعيًا يتجاوز العصبيات المحلية أو الانتماءات الضيقة، ويؤسس لولاء جماعي متجاوزٍ للعوامل المصطنعة من استعمار أو تجزئة.
كما أن الهوية القومية لا تُفهم فقط كأمر واقع أو صفة موروثة، بل هي بناءٌ تاريخي ومشروعٌ نهضوي، يتبلور عبر تفاعل الوعي الجمعي مع مقتضيات النهوض والتحرر، وهي في فكر البعث ليست هوية مغلقة تنفي الآخر، بل إطارٌ يحتضن التعدد والتنوع الثقافي في نطاق الوحدة التاريخية للأمة.
وإنها هوية الأمة العربية بوصفها “كيانًا تاريخيًا حيًا”، كما وصفها القائد المؤسس ميشيل عفلق، هوية لا تستمد شرعيتها من مجرد الحدود أو النظام السياسي، بل من الرسالة الحضارية التي تؤمن بها الأمة وتنهض بها.
وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين، وقفت الأمة العربية في مفترق طرق، يجلله فشل الدولة القطرية ومأزقها. إن ما يتعرض له المشروع القومي من هجمات متزايدة، خاصةً منذ الغزو الأمريكي واحتلال العراق عام 2003، ليس دليلاً على ضعفه أو تهافت أطروحاته، بل هو في جوهره شهادة حية على عمق هذا المشروع وتهديده البنيوي لمصالح القوى الاستعمارية ومخططات التفتيت والتبعية.
فحيوية الفكر القومي، الذي وضع حزب البعث العربي الاشتراكي أسسه ومضامينه، تتجلى بوضوح في استهدافه المستمر؛ إذ لا تُحارب إلا الأفكار التي تمتلك قدرة استثنائية على التأثير والتغيير.
وقد وصف الحزب هذا الفكر بأنه “قوة لا تُقدّر بثمن”، ليس فقط لكونه حاملًا لثلاثية الأهداف الكبرى (الوحدة، الحرية، الاشتراكية)، بل لأن العلاقة التي تربط بين هذه الأهداف ليست تراكبية أو ترتيبية، بل علاقة عضوية وجدلية، يُغذي بعضها بعضًا، ويتحقق كل واحد منها من خلال الآخر.
إن المشروع القومي في هذا السياق وإن انطلق من رؤية فكرية، فإنه يتجاوز التنظير المجرد ليُجسّد فعلًا تحرريًا واقعيًا، يتداخل فيه الفكر مع الممارسة، والتصور مع الأداة، والهدف مع الفعل.
وفي ظل تكلّس البُنى القُطرية وانكفاء النخب على مصالح ما دون وطنية، لم يكن غريبًا أن يتعرض المشروع القومي لهزّات وانكسارات؛ بعضها ناجم عن عوامل موضوعية، وأخرى بفعل تواطؤ داخلي أعاق مسار التحرر والوحدة.
لكن رسالة الأمة العربية، التي أنطق بها حزب البعث العربي الاشتراكي منذ نشأته، لم تكن صرخة عابرة في زمن مضطرب، بل كانت شهادة ولادة جديدة لأمة شاءت لها المؤامرات أن تُبعثر، وأرادت لها إرادتها أن تُبعث من رمادها.
البعث لم يكن مجرد موقف سياسي، بل كان موقفاً حضارياً وجماهيرياً، تاريخياً وأخلاقياً أمام قضية الأمة والمصير الإنساني.
في هذا السياق، لا يرى حزب البعث في مأزق الدولة القطرية مجرد حدود جغرافية، بل معركة وجود ومصير. كل قطر عربي ليس إلا خلية في جسد واحد أكبر، وكل جهد محلي يجب أن يكون طوبة في صرح النهضة القومية الشاملة.
إن معركة البعث الحقيقية لم تكن يوماً ضد جغرافيا الأقطار، بل ضد الانكفاء عليها وتقديسها وتكريسها على حساب حقيقة الأمة ونهضتها ورسالتها الخالدة.
وإذا كانت الدولة القطرية قد وُلدت من رحم التقسيم الاستعماري، فإن مهمة البعث، كما طرحها مؤسسه الأستاذ ميشيل عفلق، لم تكن مجرد إزالة الحدود بالعمل الفوقي، بل نسج وعي ونضال فكري وجماهيري متجدد في وسائله، يتجاوزها بالحب، وبالوعي، وبالإرادة المشتركة، بلا معاناة نضالية ودور الجماهير.
وأن تكون فلسطين قلبها النابض كما ركز عليها القائد المؤسس: (الوحدة طريق تحرير فلسطين، وفلسطين طريق الوحدة).
وحدةٌ تُبنى لا بقرارات فوقية، بل بتراكم نضال الجماهير الواعية التي تدرك أن مصيرها واحد، ونضالها مشترك، وأن قدرها واحد ومستقبلها أمامها لا خلفها.
اليوم، وقد أرهقت الأمة جراح الانقسامات، وغياب التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للموارد والثروات، وتسيد قوى التخلف والاستبداد على مراكز صنع القرار، واشتداد الهجمة الإمبريالية الصهيونية، التي درجت على استهداف كل قطر باعتباره أمة من حيث التحشيد التقني والعسكري وحجم الترسانة التسليحية والأساطيل والقواعد، كما في فلسطين والعراق، وقبل ذلك مع مصر بعد ثورة يوليو 1952، واستفحلت نزعات الهويات الفرعية، والتي تتمثل في (الانتماءات الثقافية أو الدينية أو الجهوية أو الإثنية أو اللغوية، التي تُعبّر عن تنوّع المجتمعات داخل الإطار القومي الأشمل)، وهي ليست نقيضًا للهوية القومية، بل إحدى مكوناتها إذا ما أُدرجت في مشروع قومي يحتضن التعدد دون تفكيك.
إن الهوية القومية، كما يتبناها فكر البعث، لا تتناقض مع وجود الهويات الثقافية أو الإثنية الفرعية، بل تستوعبها ضمن إطار جامع يتسق مع مفهوم المواطنة القومية.
وفي الأدبيات الحديثة، يُشار إلى هذا التعايش بمصطلحات مثل “الهوية الإثنية” (Ethnic Identity) و”الوطنيات الفرعية” (Sub-Nationalisms)، وهي مفاهيم تعزز فهم التعدد داخل الوحدة، شريطة أن تُدار بتوازن لا يُفقد الأمة تماسكها ولا يُحوّل التنوع إلى أداة تفتيت.
تبدو مبادئ وأهداف حزب البعث أكثر حيوية وإلحاحاً. فالخطر لم يعد فقط في التشرذم القطري والسياسي، والاستقواء بالعدو الصهيوني والأجنبي، والاستخفاف بإرادة الجماهير والوصاية عليها، بل في التشظي النفسي والثقافي الذي يكاد أن يقتلع الإنسان العربي من جذوره.
من هنا، فإن تعزيز وحدة النضال، والنضال الوحدوي، لا يمكن أن يتم بالأدوات القديمة وحدها، بل يتطلب قراءة جديدة، بعثية، عصرية، تنطلق من الواقع لتعيد تشكيل الوعي العربي على أسس أكثر عمقاً، ووسائل أكثر ملاءمة وفعالية:
– تكتل اقتصادي وحدوي يربط بين العواصم العربية، يكسر الحصار القُطري، ويعيد الثقة بالمصير المشترك.
– مشروع ثقافي وحدوي يُعيد إنتاج سردية العروبة كقوة تحررية إنسانية، قادرة على مخاطبة الذات والعالم بلغة العصر.
– رؤية سياسية تؤمن بأن الوحدة لا تُفرض قسرًا، بل تُبنى بالحوار الحر والمشاركة الحقيقية في صياغة المستقبل، كلمة سرها: الديمقراطية والوحدة واحترام حقوق الإنسان.
إن الهوية القومية العربية، كما رآها البعث، ليست قالباً جامداً، بل كياناً حياً، يتنفس بقدر ما تتجدد قيمه، ويتمدد بقدر ما تعلو طموحاته.
ولذلك، فإن معركة الأمة في هذه المرحلة التاريخية ليست ضد التحدي الخارجي فحسب، بل ضد كل ما يُفقر الروح العربية ويجعلها تقبل بالاستكانة والخضوع.
خــاتــمــة:
إن بعث الأمة لا يعني التمسك بأطلال التاريخ، بل تحويله إلى وقود للنهضة.
فالقومية العربية، التي رآها البعث، ليست حالة وجدانية ولا استجابة انفعالية، بل مشروع تحرري يعيد للإنسان العربي ثقته في نفسه، ويصوغ عبر وحدته ومبادئه مصيرًا جديدًا يتحدى التبعية وينشد الكرامة.
وكل تأخير في الالتحاق بهذا المشروع، هو تأجيل لمستقبل الأمة العربية.
إنها رسالة حية متجددة لا تموت، وإن المخرج الحقيقي من واقع التجزئة لا يكمن في التمنيات، بل في إعادة تعريف المشروع القومي ضمن أدوات العصر والمتمثلة في: الاقتصاد المتكامل، والثقافة المشتركة، والإعلام العابر للحدود، والتكنولوجيا كجسر وحدوي لا كأداة للتفكيك.
وإذا كان البعث قد حدد منذ عقود أن النهضة هي فعل تحرري، فإن تحدي اليوم هو تحويل ذلك الفعل إلى بنية مؤسسية جماهيرية، تُحاور العصر وتُبدع في الوسيلة، دون أن تُفرط في الجوهر.
السؤال الأعمق الذي يفرض نفسه اليوم:
كيف تستطيع الأمة العربية أن تستعيد وحدتها، لا عبر شعارات الانفعالات العابرة، بل عبر مشروع نهضوي قومي تحرري حضاري وعقلاني، يؤسس لوحدة الإرادات قبل وحدة المؤسسات؟