
حرب الجمارك الأمريكية الى أين؟
بقلم الدكتور وليد عبد الحي
بعيدا عن الخلفيات الآيديولوجية للنظرة للسياسة الامريكية على المسرح الدولي، من الضروري إدراك السلوك الامريكي الحالي في الميدان الاقتصادي رغم ان الفصل بين السياسة والاقتصاد اصعب من الفصل بين التوائم السيامية. وهنا اسأل بعد الفصل لهذين التوأمين ولاغراض منهجية :هل سيصل ترامب الى غاياته في نقل الولايات المتحدة من الدولة الاعلى في العجز التجاري من ناحية والدين العام من ناحية اخرى الى تحقيق فائض او توازن على اقل تقدير في نهجه الحالي؟
من الضروري ادراك ان العمود الفقري للعجز التجاري يقوم على بعدين هما:
أ- عدم التوازن بين مستويات الادخار ومستويات الاستثمار
ب- اتساع الفجوة بين الانفاق الحكومي من ناحية وايرادات الضرائب
وعند النظر في اجمالي العجز الناتج عن هذين البعدين نجد أن الولايات المتحدة بلغت مستوى من العجز يقارب حوالي 5.4% من اجمالي ناتجها المحلي، وهو رقم يمكن الاتكاء عليه لبناء سيناريوهات متشائمة ما لم يتم اتخاذ اجراءات وقائية لتفادي تداعياته، بخاصة ان الدول المنافسة للولايات المتحدة في المجال الاقتصادي لا تعاني من هذه المشكلة الهيكلية بمقدار ثقلها على كاهل الاقتصاد الامريكي.
ذلك يعني ان المدخل المباشر لتحقيق التوازن يتم أولا بضبط الانفاق الحكومي داخليا، والاقدام على مثل ذلك سيقود الى ردات فعل شعبية ومن بعض القطاعات المحتلفة اقتصاديا، فهل سيقابل المواطن الامريكي تخفيض الرعاية الصحية أو التعليم …الخ بالترحاب؟ كما أن تعهدات ترامب بتخفيضات ضريبية –كما قال- ستؤدي الى تفاقم الاختلال المالي لان ايرادات الضريبة ستقل لمواجهة مستويات الانفاق الحكومي.
اما مسألة التعرفات الجمركية، بخاصة في مواجهة دول عملاقة كالصين، فان نجاحها مرهون بعوامل عدة منها :
1- رد الفعل من الدول الاخرى على نسبة جماركها على السلع الامريكية، وهو ما يجعل هذه السلع اقل جذبا نظرا لارتفاع اسعارها في حالة تطبيق رد الفعل عليها، فكل زيادة في التعرفة يليها وبشكل فوري زيادة في سعرها مما يقلل من قدرتها التنافسية.
2- القدرة على التعويض في الاسواق، ففرض الجمارك على السلع الامريكية مع معظم اسواق العالم سيزيد من سعرها في كل الاسواق ، بينما السلعة الصينية ستبقى قدرتها التنافسية بل ستزداد مع الدول التي تبقى فيها السلع الصينية على نفس المستوى من التعرفة الجمركية، فما كانت تبيعه في الاسواق الامريكية سينتقل الى اسواق أخرى ، ويكفي ان نشير الى ان اجمالي الفائض التجاري الصيني مع اهم عشرين شريك تجاري لها كان العام الماضي حوالي 992.2 مليار دولار، منها 361 مليار مع الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن الصين بافتراض نظري بسيط لو تم اغلاق تجارتها مع الولايات المتحدة بنسبة 100%، فان فائضها التجاري سيبقى في حدود 631 مليار دولار، لكن الصين ستنقل بعضا مما تقفل الاسواق الامريكية في وجهه الى دول اخرى مثل منطقة الآسيان (تبلغ تجارتها مع هذه المجموعة حوالي 982 مليار) او مع الاتحاد الاوروبي(786 مليار دولار)، وهو ما سيرفع الرقم السابق بنسبة كافية لامتصاص الاثر الامريكي.
3- تنتهج الصين سياسة معينة، فهي تقوم بنقل صناعاتها التي تفرض عليها الولايات المتحدة الى دول أخرى وتصدرها للولايات المتحدة على اساس ان المنتج هو تللك الدولة، وبخاصة الدول التي تكون نسبة التعرفة الجمركية الامريكية عليها متواضعة، وهنا تستفيد الدولة المستقبلة للصناعة الصينية من ناحية وتستفيد الصين بتمويه الدخول للسوق الامريكي ولكن بزي الدول المضيفة لصناعاتها، ومع ان بعض الدول مثل فييتنام لم تبد ترحيبا بالفكرة(لاسباب سياسية تاريخية) فان غيرها سيجد ذلك فرصة لها.
4- من بين ردود الفعل الصينية هو تخفيض الصين لقيمة عملتها، وهو ما يجعل القيمة السعرية للسلع الصينية اقل، لكنها ستصبح اكثر جاذبية للمشتري الرشيد لانها أرخص، وإذا تمكنت الصين من ضبط التراجع في قيمة عملتها فانها تستطيع تعويض تخفيض قيمة عملتها بزيادة الاقبال على انتاجها السلعي بحكم رخص الاسعار.
5- ان رفع الصين لقيمة تعرفتها الجمركية على السلع الامريكية سيجعل اسعار السلعة الامريكية مرتفعة جدا في ظل ارتفاع سعرها اصلا بسبب ارتفاع معدلات الاجور في الولايات المتحدة، وهو ما يساهم في رفع سعرها في الاسواق العالمية (فقيمة اجر العامل الصيني تساوي تقريبا 17 الف دولار سنويا، مقابل 59 الف دولار للامريكي ،اي حوالي 3.5 اضعاف)
6- من الضروري ملاحظة ان اجمالي الانفاق العسكري الامريكي يفوق نظيره الصين بحوالي 566 مليار دولار،(939 مقابل 373 مليار دولار)، وهذا يعيدنا لنبوءة بول كيندي عن التمدد الزائد واعبائه الاقتصادية(Overstretch ).
7- ثمة ظاهرة برزت منذ اواسط تسعينات القرن الماضي ، وهي أن الإنتاج السلعي وبخاصة الصناعي يعرف الآن ظاهرة يطلق عليها علماء الاقتصاد اسم “سلاسل القيمة العالمية”، والتي تعني توزيع كل مراحل الانتاج(من التصميم الى التسليم للسلعة) في دول متعددة ، ومن المؤكد ان هذه السلاسل المتواجدة في خارج الولايات المتحدة –كامتداد للمركز-، والمشكلة هي ان نموذج التصنيع الذي يُشكّل أساس نهج ترامب لم يكن موجودًا منذ ما يُقارب الأربعين عامًا ، وبالتالي كيف ستوفق سياسة ترامب الجمركية بين ترابط سلسلة القيمة العالمية وبين ” قطريته المحصورة في المراحل المتواجدة داخل الولايات المتحدة فقط ” ، بخاصة أن أي سعي لإعادة سلاسل التوريد بأكملها إلى الولايات المتحدة ستكون سببا في ارتفاع أسعار المستهلك، وستجعل السلع الأمريكية غير قادرة على المنافسة دوليًا.
8- يعمل في القطاع الصناعي الامريكي حوالي 12.8 مليون عامل،فلو افترضنا ان ترامب حقق هدفه في زيادة الانتاج الى اكثر من 10-12% عبر سياساته الجمركية ،أي ما يعادل زيادة انتاج صناعي تساوي حوالي 900 مليار دولار، فان ذلك يعني ايجاد أكثر من 1.5 مليون فرصة عمل جديدة، لكن هذه النسبة لا تشكل اكثر من 1% من اجمالي العمالة الامريكية الصناعية والخدمية، وهي زيادة لا تشكل نقلة كبيرة.
من الواضح ان ترامب منحاز للسياسات الاقتصادية الصرفة اكثر من عنايته بالابعاد السياسية والاجتماعية والقانونية الدولية، وقد يبدو ذلك ممكنا في المدى القصير، لكن الترابط الاقتصادي والسياسي والامني والاجتماعي الذي كرسته العولمة(بغض النظر عن المنظور المعياري لها) ستجبر ترامب او من يليه على احترام اتجاهها مهما أوهمته نرجسيته المرضية بانه يعيد صياغة العالم ويعيد للولايات المتحدة عظمتها كما يقول شعار أطروحاته ومنظمته(.MAGA).