جيرار آرو في «إسرائيل فخ التاريخ»: الاستيلاء على فلسطين يمهد لاستمرار الحروب في العالم

جيرار آرو في «إسرائيل فخ التاريخ»: الاستيلاء على فلسطين يمهد لاستمرار الحروب في العالم
سمير ناصيف
قد يطرح كثيرون السؤال حول موقف الشعب الفرنسي عموماً وحكوماته السابقة والحالية إزاء إسرائيل والانتهاكات المتجاوزة للشرائع الدولية التي ترتكبها حكومة بنيامين نتنياهو حالياً بدعم أمريكي ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني. وقد يسألون إذا كان هذا الوضع سيستمر على ما هو عليه أو سيصبح أسوأ أو أفضل؟ وهل سيكون في الامكان التعايش بسلام في فلسطين في المستقبل بين سبعة ملايين يهودي إسرائيلي وثمانية ملايين عربي فلسطيني وخصوصا بعد عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها منظمة حماس الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 والتي ردت وما تزال ترد عليها حكومة نتنياهو بعنف تخطى المعايير الإنسانية حتى الساعة؟ لعل أحد أفضل الذين بامكانهم الرد على هذه الأسئلة بموضوعية إلى حد ما هو السفير الفرنسي السابق في إسرائيل في مطلع الألفية الثانية والممثل الدائم في مرحلة حاسمة لفرنسا في هيئة الأمم المتحدة وسفير فرنسا في أمريكا المتخصص في قضايا الشرق الأوسط حتى فترة قريبة جيرار آرو.
حاول آرو القيام بذلك في كتاب صدر له بالفرنسية مؤخراً بعنوان: «إسرائيل فخ التاريخ». يبدأ آرو كتابه بالتأكيد انه يتعاطف ككثير من الفرنسيين مع المآسي التي تعرض لها اليهود في أوروبا في مطلع ومنتصف القرن العشرين بسبب العداء للسامية الذي كان منتشراً في روسيا القيصرية وفي ألمانيا النازية والذي أدى إلى «المحرقة» التي نفذها هتلر ضدهم والتي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من اليهود الأوروبيين الذين هاجر عدد كبير من الناجين منها إلى فلسطين واستقروا هناك، فيما ذهب آخرون إلى الولايات المتحدة وأنشأوا مجموعة اجتماعية نافذة هناك. لن يتم التركيز في هذه المراجعة على القسم التمهيدي للكتاب الذي تطرق لهذا الحيز بل على الأقسام التالية، ابتداء من الفصل الثاني حيث يتطرق المؤلف إلى موقف الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول وخياراته كرئيس جمهورية فرنسا في التعامل مع إسرائيل حيث يقول: «لقد توقع الرئيس الجنرال ديغول توقعات صائبة لما قد يحدث بعد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية إثر نتائج حرب 1967 إذ رأى ديغول أن النتيجة ستكون المزيد من القمع والتهجير للفلسطينيين وبالتالي قطع الجنرال تمديد فرنسا لإسرائيل بالأسلحة وخصوصاً بعد هجوم إسرائيل على مطار بيروت في كانون الأول/ديسمبر 1968. وبالتالي حدث ما يشبه الطلاق الإسرائيلي ـ الفرنسي والتقارب الفرنسي مع الدول العربية». (ص 44).
وبعد ذلك، تم طرح مشروع فرنسي دولي للاعتراف بوجود قضية فلسطينية تتطلب حلاً ما أغضب إسرائيل التي قررت مذاك عدم الاعتراف بوجود شعب فلسطيني حتى اتفاقيات أوسلو في عام 1993. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1974 صوتت فرنسا مع دخول «منظمة التحرير الفلسطينية» كمراقبة في جمعية الأمم المتحدة وأدى الأمر إلى افتتاح المنظمة مكتباً لها في باريس، فساءت علاقة فرنسا بإسرائيل تدريجياً واستمرت في ذلك المنحى خصوصاً بعد بيع فرنسا أسلحة متطورة إلى دول عربية معادية لإسرائيل كالعراق وليبيا في وقت لم تستطع إسرائيل الحصول على ما يوازي تلك الأسلحة. «هذه التطورات أدت إلى تقدم كبير في علاقة إسرائيل بأمريكا». (ص 46).
وبعد ذلك اعتمدت إسرائيل سياسة «معي أو ضدي» تجاه فرنسا برغم محاولات رؤساء فرنسيين بعد ديغول والديغوليين التقارب من إسرائيل كنيكولا ساركوزي وفرنسوا اولاند وايمانويل ماكرون.
وبالنسبة لعملية «طوفان الأقصى» فإنها بنظر الكاتب زادت حدة معارضة يهود فرنسا المؤيدين للصهيونية لمنظمات العالم التي لم تتخذ مواقف مؤيدة بشكل قاطع وحاسم لردة فعل الحكومة الإسرائيلية عليها، (ص 52)، علماً أن دولاً عالمية منتسبة إلى المحاكم الدولية شجبت العنف الإسرائيلي ضد المدنيين.
ويشير المؤلف إلى خطورة مواقف قادة الأحزاب الدينية المشاركة حالياً في حكومة نتنياهو في إسرائيل وعدم جواز صمت بعض دول العالم أو ترددها إزاء مواقفهم «المتعارضة مع الإنسانية والديمقراطية، والمشجعة على العنف والقتل ضد الفلسطينيين بدوافع دينية تلمودية عنصرية تبرر تغيير تاريخ وجغرافيا العالم الحالي». (ص 82).
ويضيف: «أن عنصرية أولئك الوزراء في حكومة نتنياهو والعسكريين التابعين لهم قادتهم إلى الفشل العسكري في بداية عملية (طوفان الأقصى) فبدلاً من أن يركزوا على الضبط الأمني الحدودي مع غزة وجهوا عسكرييهم نحو تأمين الاستيلاء على الضفة الغربية ومنع نشوء دولة فلسطينية». (ص 83).
ويشير المؤلف أنه «لا يمكن فرض شرعية أي دولة بالارتكاز على مبدأ الحق التاريخي الذي يعود حسب كتب دينية قديمة إلى إرادة الله. فمثل هذا الارتكاز مناقض لواقع التاريخ والجغرافيا. كما أن التذرع بما كُتب في الكتب الدينية القديمة لممارسة التهجير والعنف ضد الآخرين يخلق الفوضى السياسية والنزاعات الحدودية في العالم أجمع. وما يمارسه المتطرفون الدينيون في إسرائيل هو فخ خطير يؤدي إلى الاقتتال الدموي والحروب والمواجهات الدموية المستمرة كما في فلسطين. فماذا لو قررت كل دول العالم تغيير حدودها الجغرافية استناداً إلى ما ورد في كتبها الدينية القديمة؟». (ص 92).
أما السؤال عن أسباب استمرار حكومات الولايات المتحدة في التأييد غير المشروط لسياسات قادة إسرائيل، فيعتقد المؤلف أنه يعود إلى ما حدث بعد مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991. فقد خسر الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1992 بسبب الضغوط التي مارسها وزير خارجيته جيمس بيكر على رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك اسحق شامير للمشاركة في ذلك المؤتمر وقبول مقرراته مما حرك اللوبي الصهيوني في أمريكا ضد بوش بقوة وساهم ذلك في هزيمته.
وفي المقابل، خسرت كتلة اليمين الإسرائيلي تحت قيادة شامير رئاسة الحكومة الإسرائيلية بسبب رضوخ شامير لضغوط بوش الأب وبيكر. وبالتالي، صار كل مرشح رئاسة أو رئيس أمريكي يخشى أن يلقى مصير بوش الأب، وكل رئيس وزراء إسرائيلي يتجنب الوقوع في ما وقع فيه شامير. وهذا (برأي الكاتب) يفسر تردد الرئيس جو بايدن في الضغط الفاعل على إسرائيل قبل وبعد عملية «طوفان الأقصى» وموقف نتنياهو المتصلب والمتطرف في عملية الرد القاسي عليها. (ص 110). ولكن هناك بالطبع عوامل أخرى اقتصادية واجتماعية تفسر دوافع الموقف الأمريكي المنحاز باستمرار لإسرائيل بالإضافة إلى الإعلام الغربي عموماً الذي تديره لوبيات معادية للعرب.
بعد خسارة بوش الأب اعتمدت القيادات اللاحقة سياسة «إقناع» إسرائيل بالتفاوض عن طريق اقتراحات لمستشارين رئاسيين يعرف الكاتب أكثرهم من خلال عمله في السفارة الفرنسية في واشنطن وتعيينه بعد ذلك سفيراً لفرنسا في إسرائيل عام 2002 بقرار من وزير الخارجية دومينيك دوفيلبان خلال رئاسة جاك شيراك لفرنسا.
أكثر المنحازين لإسرائيل بين هؤلاء كان المستشار الرئاسي الأمريكي السابق دينيس روس (حسب ما ذكره الكاتب). أما الآخرون فعملوا كمستشارين أو سفراء في عهود بيل كلينتون وباراك أوباما وبايدن وبينهم مارتن انديك وآرون ميلر وغيرهما من الذين كان الكاتب يتشاور معهم في أمور الشرق الأوسط. بيد أن القيادة الأمريكية «خضعت تدريجياً لمشيئة إسرائيل في المنطقة، وتلك المشيئة كانت رفض نشوء دولة فلسطينية في الضفة الغربية خلال عمليات التفاوض». (ص 112).
ويقول الكاتب إن فرنسا خسرت الكثير من نفوذها في إسرائيل وبعض الجهات المؤيدة لها بعد توفير الرئيس جاك شيراك العناية والاحترام للرئيس ياسر عرفات وعملية معالجته في فرنسا ونقله كرئيس لدفنه في فلسطين عام 2004. وقد فعل شيراك ذلك على الرغم من أن الإعلام الإسرائيلي والغربي ركز على تغطية العنف الفلسطيني الذي كان يجري ضد إسرائيل خلال وبعد الانتفاضة الثانية في مطلع الألفية الثانية.
ومن مهمات الكاتب لدى تعيينه سفيراً في إسرائيل كانت محاولة إعادة ترطيب الأجواء بين فرنسا وإسرائيل. غير أنه يشير إلى أن سياسات أرييل شارون في تلك الحقبة لم تسهّل مهمته برغم أن شارون كانت لديه مواقفه الخاصة بالنسبة للتفاوض حول الاستيطان مختلفة عن سياسات نتنياهو.
وبرأي آرو أن «الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان بإمكانه الاستثمار إلى درجة أكبر في ملف وقف الاستيطان، ولكن الحملة التي شنها ضده نتنياهو في أمريكا بمعاونة اللوبي الصهيوني والتحديات التي مارسها نتنياهو بدون تحفظ في الكونغرس الأمريكي ضد قيادته بمعاونة حليفه رون ديرمر أدت إلى اضعافه كرئيس وصعود دونالد ترامب إلى المنصب الرئاسي في عام 2016 وعودة ترامب حالياً إلى ذلك المنصب». (ص 119).
ويشير المؤلف إلى أنه «في الثلاثين سنة الماضية وحتى 7 أكتوبر 2023 تقاعست خلالها أمريكا عن محاولة فرض حل لمشكلة الشرق الأوسط بالتعاون مع حلفائها. وآخر هذا الفشل ظهر لدى إدارة جو بايدن التي لم تفعل الكثير في هذا المجال بل فعلت عكس ذلك، إذ استمرت في تقديم الدعم غير المحدود لإسرائيل برغم التجاوزات التي ارتكبتها إسرائيل في غزة أخيراً. كما تستمر وسائل الإعلام والقيادات الأمريكية في تصوير الموضوع وكأنه صراع بين دولة ديمقراطية (إسرائيل) مؤيدة للغرب تتواجه مع ديكتاتوريات متطرفة». (ص 120 ـ 121).
ويتحدث الكاتب عن: «موجة من تأييد فلسطين غزة بالتحديد، في الجامعات الأمريكية يحاول الرئيس دونالد ترامب ضبطها أمنياً متناغماً مع ردود فعل إسرائيل بأنها موجة معادية للسامية» (ص 123). هذا الوضع أدى إلى «اعتماد نتنياهو وحكومته على تأييد يمين الحزب الجمهوري الأمريكي وليس بالضرورة الدعم من جميع الأمريكيين. وبالتالي، يجب أن يحذر نتنياهو في علاقته مع ترامب وألا يذهب بعيداً فيها لأن الرئيس الأمريكي الحالي يبدل ارتباطاته حسب ما يراه يناسب مصالحه ومصالح أمريكا، وهو ليس من عاشقي استمرار الحروب والنزاعات المسلحة في العالم إلى اللانهاية». (ص 126).
ويتطرق الكتاب إلى المواجهة بين أمريكا وإيران ودور فرنسا في الاتفاق النووي الذي وقعته دول (P5+1) مع إيران في عام 2015 ثم خرجت منه الولايات المتحدة بعد انتخاب ترامب رئيساً للمرة الأولى عام 2016 وذلك في ربيع عام 2018.
فالكاتب بالإضافة إلى أدواره السابقة كسفير لفرنسا في إسرائيل والأمم المتحدة وواشنطن كان مديراً للشؤون السياسية في وزارة الخارجية الفرنسية المتعلقة بالشرق الأوسط وبالتالي الأسئلة التي يطرحها ذات أهمية وما زالت الحكومة الفرنسية الحالية تحترم تحليلاته السياسية حتى الساعة.
ويقول في هذا المجال: «يبقى السؤال مطروحاً حالياً عن امكان قيام إسرائيل بعملية عسكرية بموافقة أمريكا ضد إيران لتدمير تجهيزاتها النووية المخزنة تحت أرض جبلية».
ويجيب قائلا: «هذا الوضع ربما يفسر عدم الدخول المباشر لإيران في حرب ما بعد (طوفان الأقصى) خشية من ان يتم ضربها عسكرياً من قبل إسرائيل وأمريكا، فيما عمليات إسرائيل العدائية في المنطقة عموماً والاغتيالات في إيران ضد شخصيات من كبار حلفائها يبدو وكأنها تسعى لاستدراج إيران إلى مواجهة عسكرية». (ص 130 و131).
ويقصد الكاتب اغتيال القائدين إسماعيل هنية القائد الراحل لحركة حماس لدى زيارته لإيران، والراحل حسن نصر الله الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني في قصف على الضاحية الجنوبية لبيروت بأسلحة أمريكية متطورة أطلقها من الجو السلاح الجوي الإسرائيلي.
لكنه يشير أيضاً أن هناك أملا في التقدم نحو الحلول السلمية في المنطقة والتعايش السلمي بين الفلسطينيين واليهود في فلسطين عبر حل الدولتين المدعوم من المجموعة الدولية والذي تترأس الكيان الفلسطيني فيه شخصيات فلسطينية واسعة الشعبية لدى شعبها وتقود الجزء اليهودي شخصيات يهودية مختلفة عن القيادات المتطرفة الحالية. كما ان فرنسا بإمكانها ان تلعب دورها في هذا المجال. (ص173 ـ 170).
Gerard Araud: «Israel Le Piege de L’Histoire»
Texto, Paris 2025
200 Pages.