مهرجان الفضاءات المسرحية المتعددة… تجارب لافتة وموضوعات مؤرقة

مهرجان الفضاءات المسرحية المتعددة… تجارب لافتة وموضوعات مؤرقة
محمد عبد الرحيم
القاهرة اختتمت فعاليات (مهرجان الفضاءات المسرحية المتعددة) في دورته الأولى، الذي أقيم على مسارح أكاديمية الفنون في القاهرة في الفترة ما بين 6 و17 أبريل/نيسان الجاري، وقد ضم العديد من العروض المسرحية التي دارت في مُجملها حول المعاناة الإنسانية وصورها المتباينة وكذا أسبابها، التي يمكن تلخيصها في مفهوم (السُلطة) أياً كانت صورتها، سواء سياسية أو اجتماعية. من ناحية أخرى تكشف العروض عن الكثير من المواهب المسرحية من الجيل الجديد، تكاد تتفوق على أسماء معروفة أصبحت تكرر نفسها ولا تقدم أي جديد، ليس على مستوى التمثيل فحسب، بل في كل فروع الفن المسرحي من ديكور وإضاءة وموسيقى وتصميم رقصات.
في هذا التقرير نستعرض بعضا من هذه العروض التي تناولت فكرة (السُلطة) وكيف يمكنها أن تحقق هدفها الوحيد، وهو تشويه الإنسان ومحو وجوده معنوياً وفعلياً.
«جدول الضرب»
عن النص المسرحي «هو الذي يُصفع» للكاتب الروسي ليونيد أندرييف يأتي العرض المسرحي «جدول الضرب» إعداد وإخراج محمد فرج. بيئة السيرك هي البيئة المناسبة لاستعراض العديد من الشخصيات والأنماط، كنموذج مصغّر للمجتمع. وهنا تبدو فكرة الاستغلال والمتاجرة بالآخرين، فقط حتى يطمئن صاحب السيرك لامتلاء خزينته، فهو لا يتورع عن المتاجرة بزوجته، التي يعرف تمام المعرفة أنها على علاقة حب مع أحد أفراد الفرقة ـ حب من طرف واحد ـ بينما هذا المعشوق بدوره يحب زميلة له في الفرقة، والتي بدورها يستغلها والدها، ولا يأبه لإصابتها ـ هو وصاحب السيرك ـ فالمهم أن تؤدي فقرتها، بغض النظر عن حالتها الصحية. هذا هو المناخ العام للمكان وشخوصه، بخلاف فقرات المهرجين واللاعبين الراقصة، إلا أن الأمر يتطور عندما يأتي غريب يستجدي عملاً، فـ(هو) وهذا اسمه، لا يجيد فعل أي شيء في عالم هذا السيرك، وقد توقف إرادياً عن الفعل في الحياة، ولا يجد سوى أن يتم صفعه كل ليلة أمام الجمهور، حتى إن الفكرة ستتطور ويصبح عدد الصفعات مساويا لعدد التذاكر المباعة، وينجح العرض وينجح (هو) الكائن النكرة، ليصبح نجماً مصفوعا. وبما أنه (مُهان) فسيقع في حب الفتاة التي يستغلها الجميع ـ الأب وصاحب السيرك ـ وتتكشف حقيقته، فهو كاتب تمت سرقة مؤلفه من الناشر، ولم يكتف بذلك بل سرق زوجته وتزوجها وأنجبا طفلاً، فما كان من (هو) إلا الهروب واختيار تلقي الصفعات الفعلية طوعاً ـ وقد تلقاها معنوياً ـ حتى يضحك الجمهور، هذا الجمهور وإن ظن أنه بعيد عن عالم السيرك أو تجربة الرجل، إلا أن فرار الرجل في النهاية يتيح لآخر ـ من المفترض أنه من الجمهور ـ أن يتقدم مُبتكراً حالة أخرى من حالات المهانة، وهي أن يقوم بمحاولة شنق نفسه يومياً أمام الجمهور نفسه، وبالطبع يرحب صاحب السيرك بالفكرة، فهو الوحيد الباقي، وما المخاليق إلا أدوار تتغير، لا أكثر ولا أقل.
«دُمى من ورق»
ووفق حالة الإرادة المسلوبة، أو القوى المسيطرة على الآخرين، يأتي العرض المسرحي «دُمى من ورق»، للكاتب المغربي إدريس الروخ، والإعداد الدرامي والإخراج لمحمد حسن. هنا ستكون المواجهة المباشرة مع السلطة، الرجل السلطوي المتحكم والمسيطر على الجميع، حيث لا يظهر، وتكفي حالة الرجل والمرأة ليتأكد وجوده أكثر. فيقوم بتزويج ابنته من خادمها، فقط لإنجاب طفل، يرث المال والسلطة بالتبعية، وبعدها سيتخلص من الزوج/الخادم. والمكان هنا أشبه بالزنزانة، بديلاً عن حجرة نوم زوجين بالإكراه، وكأنها تحت المجهر، تحاول المرأة إجبار الرجل على إتمام الزواج، حتى تنفذ رغبة أبيها ـ إنجاب طفل ـ بينما هو لا يستطيع إتمام الفِعلة دونما حُب. ويحاول أن يساعدها على الهرب، واختيار حياتها والعيش كما يحلو لها، إلا أنها لا تعرف العالم خارج إرادة أبيها، فتخاف المحاولة وتظل في سجنها، أو الرعب بمعنى أدق. ويطرح العرض سؤاله مَن هو العبد حقيقة؟ فالمرأة تدمن المخدر لتعيش أو لتتحايل على العيش في عالم الأب صاحب السطوة، بينما الرجل يكتب مذكراته ويحاول بدوره تصحيح أخطاء الماضي، وخلق مستقبل يخطه الأمل في تجاوز هذه الحالة، لذا هو الذي نجح في الفرار مهما كانت العواقب. ورغم نمطية الشخصيات واقترابها من الكليشيه، إلا أن الحوار وأداء الممثلين، غيّرا من هذا الشكل النمطي أو الحالة المعهودة لابنة السلطوي المدمنة الفاشلة، والتي بالضرورة هي ضحيته الأولى.
«الزائر»
كرسي وحيد، حبل متدل من السقف، مصباح خافت، جسد فتاتين، وفراغ. هكذا ديكور العرض المسرحي «الزائر»، تأليف بول شاؤول، وإعداد وإخراج جاسمين أحمد. وهو عرض يقترب أكثر من العروض التجريبية، فمن خلال الإضاءة والتعبير الحركي تتحاور جميع عناصر العرض، إلى جانب الموسيقى والمؤثرات المدروسة، بمعنى أنها موظفة جيداً، ولا تأتي كالعادة كيفما اتفق في مثل هذا الشكل من العروض. هنا تصبح (السُلطة) هي ويلات الحرب وتبعاتها على نفسية الشخصية، التي خاضتها، كيف ولماذا خاضتها، ربما لا نعرف ولا هي بالضرورة تعرف (الشخصية)! ومن خلال جسد الفتاتين ـ الواقع والذاكرة ـ يتم التحاور بينهما، وكأنهما داخل شخص واحد، هذه الذكريات التي تدفع صاحبها إلى اتخاذ قراره، والتعبير عن رد فعل يليق بما حدث من مآس، وهو التخلص من حياته بمساعدة الشيء الوحيد الذي يوجد معه في عتمته ـ الحَبْل ـ هذا العنصر الذي يتمايل ويُشكل مع الكرسي الخالي، الذي تصعده الفتاتان في النهاية هو الحل الوحيد لإنهاء الأزمة. فكم من إنسان تم قتله، وما الدافع إلا تنفيذ أوامر عسكري مخبول، ينفذ بدوره أوامر آخر أكثر خبلا، وهكذا حتى يتوه صاحب الرصاصة القاتلة، وما مُبرر أنه إن لم يقتل سيُقتل، إلا أنه محكوم عليه من البداية بنهايته ومحوه من الوجود، في سبيل آخرين أو آخر لا يراه ولا يعرفه، له العديد من الاسماء.. رئيس، زعيم، وطنية موهومة، المهم أنه في الأخير ستتحول إلى قاتل، وإن نجوت من ساحة معركة أو من محاكمة عادلة، فمصيرك معلق في ذاكرتك، الوحيدة التي ستتحقق العدالة من خلالها.