ثقافة وفنون

حكايات من عالم يهذي

حكايات من عالم يهذي

فاروق يوسف

الحياة الحقة أصلها في الشارع

رأيت رجلا يمشي أمامي وهو يهذي. تعلم الناس الهذيان من القطط. لا بأس أن تسقط الكلمات على الرصيف. سيقوم عمال النظافة بالتقاطها ورميها بحذر في أكياسهم. الكلمات ليست ثقيلة. تلك عبارة قاسية. غير أن جوقة العصافير التي تقيم في الأشجار تضخ هواء يعصف باللغة هو ما يقاومه الرجل الذي كان يهذي من أجل ألا يقع على الرصيف مثل كلماته. لقد تدهور الموقف فجأة. فلا القطط اكتفت بالمواء حين لمس نشيدها كمنجات النهار، ولا العصافير محت بزقزقاتها خطوط العبور التي صار الرجل يقفز بين مساحاتها البيضاء بخفة، والرجل نفسه صار ينظف لغته بممحاة. يشطب لكي يرى ويشتاق لكي يلهمه فقدانه خيالا. لو كان هناك زقاق جانبي لتسللت إليه وهربت من مستقبلي. ولكن الرجل الذي لم يلتفت إليّ كان يحثني على أن أتبعه لكي نصل معا إلى مصيره الذي صار مصيري. خطوة خطوتان ونصل. أصابعه تقول ذلك. ولو أني التفت لأكتشفت أنني قد غادرت مدينتي وصرت أمشي في شوارع مدينة الرجل الذي سحرني هذيانه. لو أن جملة منه أفقدتني صبري لتراجعت من أجل أن استعيد لغتي. غير أن ما كان يحدث غلّف حواسي بموهبة النسيان التي استقبلتها بمسرة. يا لها من غبطة. أنا رجل لا مستقبل له. أما فكرته عن الماضي فقد تم الاستغناء عنها. أنا رجل من غير ماض. هكذا تكون الحياة الحقة.

في الأصل كنا نمشي

حين التقيتها في الجادة الخامسة كانت تنوي العبور إلى الجانب الآخر. قالت «سيكون صعبا بعد أن التقيتك أن أذهب إلى هناك»، ضحكت «أنا قادم من هناك» قالت، «لا يعني ذلك أنك وضعت الهناك في جيبك» ثم أضافت «أن أمشي معك أفضل من أمشي وحدي هناك». وضعت يدها في يدي ومشينا. قالت «نيويورك ليست مدينة طاردة» صدقتها. قالت «أنا لا أحبها. يرتفع ضغط دمي فيها» ضحكت قلت لها «الطنين في أذني يزداد حين أكون في نيويورك»، قالت «هل سمعت بالحلوى الصيفية؟» قلت «لا أعرف سوى البطيخ» كان مسليا لها أن أتذوق مثلجات صرت أعبر عن إعجابي بها. لم نتكلم بعدها. فيما كنا نضحك طبعت قبلة على خدي وقالت «الآن سنفترق.. لقد مشينا».

لقاء في الغابة

فيما كنت أركض بين دروب إحدى الغابات السويدية سمعت من ينادي باسمي. ولأن الصوت كان يأتي من جهات مختلفة فقد توقفت عن الركض وصرت أتلفت حولي كما لو أنني كنت أدور. فجأة وجدتني محاطا بأربعة أشخاص. حضروا كلهم في الوقت نفسه. ما أثار دهشتي أن كل واحد منهم كان نسخة مني لكن ليس بالعمر نفسه. قال لي أصغرهم «لقد غبت يا جدي» فيما قال لي الآخر «اشتقت إليك يا والدي» نظر إلي الثالث كما لو أنه يؤنبني وقال «انتظرناك وقتا طويلا يا أخي» أما الرابع فإنه احتضنني وهمس في أذني «لا تصدقهم. لقد افترضوا أنك ميت. وذلك دليل خيانتهم».

أحلام مستعارة

اعتدت أن أجلس بسلام في أحد مقاهي كنال. بالضبط في الشارع الذي يحاذي الحي الصيني. اقترب مني ذات يوم رجل لا يشي مظهره بأنه مجنون وقال لي، بعد أن جلس أمامي، «هل تسمح لي باستعارة أحلامك؟» ولغرابة طلبه ضحكت وقلت له «لو أنني أتذكرها لوهبتها لك». قال بوجه جاد «لا أحتاج إلى أن تتذكرها. أنا عشتها»، اختفى الرجل من غير أن يحرك الكرسي الذي جلس عليه. ما أسعدني بعدها أنني لم أعد أحلم. مثلما نسيت أحلامي فإنني نسيت شكل الرجل. لو أنني التقيته لما عرفته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب