ثقافة وفنون

تعزيز الذات والحماقة الإدراكية: الكُره الأول

تعزيز الذات والحماقة الإدراكية: الكُره الأول

نعيمة عبد الجواد

عندما اتسعت شهرة أنطون تشيخوف Anton Chekhov وأصبح ميسور الحال، لدرجة أنه لم يكن لزامًا عليه أن يظل مرتبطًا بوظيفته الشاقة والمضنية كطبيب، فاجأ الجميع بتمسُّكه بمهنته أكثر مما سبق؛ والسبب أنه، على حد قوله، يريد أن يجمع أكبر قدر من الحكايات ويتعمَّق في دراسة النفس البشرية. وبالتأكيد، لن تتاح له تلك الميزة حينما يقبع بين جدران منزله. وكلما كانت المآسي تتوالى أمامه كتب قصصًا شديدة الواقعية وتلامس أكثر النفس البشرية، ما جعل لونه الأدبي خالدًا.
فيما يبدو أن تشيخوف تعلَّم الدَّرس من دستويفسكي وليو تولستوي؛ فالأول كتب عن تجاربه ومآسيه الشخصية، أمَّا الأخر فتنقَّل بسلاسة في كتاباته بين عالم النبلاء والطبقة الأرستقراطية وحياة الضبَّاط والجنود في جبهات القتال، وأخيرًا انغمس في حياة الفقراء والمهمشين في البيئات الزراعية. وكان السبب في ذلك أنه في كل مرحلة من حياته، ينقل بصدق ما يدور من حوله من مشاهد.
وقد يظن البعض أن ذلك هو حال كل الكتَّاب؛ فالأديب وليد بيئته كما يُرَدد دومًا، بيد أن الفارق هو القدرة على تحليل الواقع والنفس البشرية بوعي وصدق في الأعمال الأدبية، ما يجعلها تتحوَّل إلى دراسات سيكولوجية لأنماط بشرية. ومن خلال مزاولة تشيخوف لعمله كطبيب، لاحظ أن القاسم المشترك بين جميع أطياف البشر هو اقتراف الحماقات التي قد تعصف بحياتهم ومستقبلهم وسمعتهم، وكان يتعجَّب من ثقة مقترفي الحماقة واقتناعهم بمدى صحة وجهة نظرهم. ولذلك، غلبت على جميع أعماله الأدبية النبرة الساخرة، التي تتعجَّب من ميل الإنسان للسقوط في الهاوية بكل صلف وغرور. الحماقة تمنح أي فرد ثقة دافقة، قد تجعله يتفوَّق عند الجدل على أي شخص عليم يعي قيمة كل كلمة يتفوَّه بها.
ولقد التقط هذه الفكرة الكاتب والباحث العلمي والمحرر الصحافي الفرنسي جون فرانسوا مارميون Jaen-Francois Marmion وناقشها في كتابه «سيكولوجية الحماقة» The Psychology of Stupidity (2019)، الذي احتوى على عصارة أفكار وتجارب نخبة من أذكى الأفراد من علماء وباحثين ومدرسين، بمن فيهم علماء حازوا جائزة نوبل. ولقد تصدَّر الكتاب قائمة أعلى المبيعات لفترات طويلة؛ لصدق جدله الواقعي عند تحليل تصرفات حمقاء تبدر من أشخاص وكأنها حقًا مُكتسب، بينما هم في الواقع يجورون على حريَّات الآخرين. ومن أشهر الأمثلة، الوقوف في طابور طويل لساعات، وفجأة يظهر أحدهم ويتقدم الآخرين، ويقضي خدمته قبل جميع المنضبطين. فتلك الحماقة الشائعة قد تعكِّر يومًا بأكمله. ولهذا، يشدد مارميون أن هذا الكتاب دليل وقاية من التورط مع الحمقى.
والحماقة لا تقتصر على الأغبياء أو ذوي العقول البسيطة، فهناك الكثير من شديدي الذكاء والحصافة الذين يقعون بثبات في فخ الحماقة. ويذكر الكتاب أن ستيف جوبز Steve Jobs ذاته الذي صعد بشركة أبل إلى الذروة وكان فارسًا في عالم الرقمنة والرقميات، وقع في فخ الحماقة عندما أصر على ألَّا يعالج مرض السرطان الذي أصابه بالعقاقير الدوائية، ولجأ لأساليب بدائية تتماشى مع معتقداته الهندوسية. والنتيجة أن السرطان استشرى في جسده ولم تنفعه، فيما بعد، العقاقير والعمليات المتطورة.
فالأحمق دومًا يعتقد أن لديه مهارات وامتيازات تفوق الآخرين وتخوله لأن يفعل ما يشاء، وهذا لاعتقاد الأحمق أنه سريع البديهة وله القدرة على فهم الأمور والسيطرة على أصعب المواقف. فهناك، على سبيل المثال، من يقرأ خبرًا أو حتى كتاباً عن موضوع ما، ويفهم قشوراً من المعلومات التي يحتوي عليها الكتاب. وبعد ذلك، وبكل جرأة، يعتقد أنه عليم خبير بهذا الموضوع، وكأنه قد تقصى جميع المراجع والآراء التي تدور حوله. وعلى النقيض، فإن العلماء والخبراء في أحد المجالات، يلاحظ أن شيمتهم التردد والخوف من الإدلاء بأحد الآراء أو التفوُّه بإحدى العبارات التي قد تحمل معنيين؛ لأنهم وصلوا لدرجة من الحكمة علَّمتهم أن الكلمة الواحدة قد تودي بحياة البعض أو تعبث بمصائر آخرين من خلال تشويه أفكارهم. ومن ذلك يمكن فهم أن جوهر التصرفات الحمقاء هو اللامبالاة بالآخرين.

وثمة أنواع عدة من الحمقى، فهناك مُقترفو الحماقات التي لا يضرون بها إلَّا أنفسهم أو من هم في محيطهم، ولكن إذا توافر للأحمق سُلطة أو كلمة مسموعة، فإن أفكاره الحمقاء قد تعبر لأجيال. وخير مثال على ذلك مشاهير ومؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة هؤلاء مُبتدعي التحديات الغريبة؛ مثل دول الثلج أو التسطيح والجري على القطارات، وبالتأكيد عصفت تلك التحديات بحياة الكثير من الأطفال والكبار. بيد أنّه، في حين توافر للأحمق منصب سياسي أو اجتماعي مرموق، فإن الخطر يصير أعمق.
ويلاحظ أنَّ التحييزات الإدراكية للحمقى تجعلهم على إيمان راسخ بأن كل ما يتفوهون به صحيح ولا تشوبه شائبة، لدرجة تجعل بساط العقول أو حتى ذوي المعرفة، يصدقونهم. ومن أشهر الأمثلة أن الذين أشاعوا أن الأرض مسطحة، ساقوا الملايين خلفهم وجعلوهم يؤيدون نظريتهم التي تضرب عرض الحائط ليست فقط بالنظريات المتعارف عليها، بل بالدليل العملي؛ من خلال الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية.
وتنجم تلك الظواهر الحمقاء من مبدأ تعزيز الذَّات التي تصيب الفرد بحالة من النرجسية الواهية التي لا أساس لها. ولعل خير شاهد على هؤلاء المؤثرين، صفحات التواصل الاجتماعي التي أعطت صوتًا لكثير من الحمقى الذين يرفلون في نشر الجهالة ونشر كل ما يصيب العقل بالبلادة. والأدهى من ذلك، الشعور بأنه من الواجب على الجميع أن يتبعوا صفحاتهم ويمطروهم بوابل من الإعجابات. وكثيرًا ما يتعجب الحكماء من رواد وسائل التواصل أن الصفحات التي تُقدِّم محتوى تافهاً، لها ليس فقط الآلاف بل أيضًا الملايين من المتابعين، في حين أن صنَّاع المُحتوى المفيد قد لا يجدون سوى فئة أقل من القليلة تتصفح المحتوى بين الفينة والأخرى. والصورة النهائية التي يرغب مارميون في توكيدها، أنه بالرغم من أن الأحمق صوته أعلى من الحكيم، لكن كل الحكماء مروا في حياتهم بتجارب حمقاء علَّمتهم الحكمة.
وبالرغم من أن كتاب «سيكولوجية الحماقة» ظهر عام 2019، فإن فيلسوف القصة القصيرة أنطون تشيخوف استطاع تلخيص مبادئ الحماقة الإدراكية وتعزيز الذات ورحلة الفرد من الحماقة إلى الحكمة، في قصة قصيرة مكثَّفة بعنوان زينوتشيكا Zinochka أو «الكُره الأوَّل». والقصة تحكي موقفًا أحمق جعل صاحبه يرتقي إلى الحكمة، التي نجمت من إحساسه بالمعاناة من جرَّاء هذا الموقف.
وتحكي القصة اجتماع جماعة من المصطافين في كوخ يتبادلون أطراف الحديث. ولإضافة عنصر الإثارة لسهرتهم، اقترح أحدهم أن يروي كل واحد فيهم مغامراته العاطفية. وبينما كان كل واحد فيهم يتفاخر بمغامراته وتصرفاته، جلس ضابط في أحد الأركان صامتًا وقد غلب عليه التثاؤب، ما يدل على أن الحديث برمته يصيبه بالملل والضيق. وعندما جاء دوره، صاح أن الحديث عن الحب والمغامرات العاطفية لا غرابة فيه، ثم أربكهم بسؤاله فيما إذا كان أحدهم جرَّب الكُره. هوى سؤاله عليهم، فاسترعى انتباه الجميع. فقص عليهم أنه عندما كان في الثامنة من عمره، شاهد مربيته الصَّارمة تنصاع لغزل أخيه، فاستغل تلك الحادثة لإذلال المربية وإرغامها على تنفيذ رغباته، ففعلت صاغرة خشية أن تطردها والدته، وأن تصاب سمعتها بالسوء. وكلَّما يهدأ الأمر، كان يُصعِّد من وتيرة إذلالها، ما جعل المربية تكظم غيظها بصعوبة، لكن هذا لم يمنع من رميها له بنظرات من الكره والضيق والاشمئزاز أينما ذهب أو حلّ.
وفي أحد الأيام، رغب الصغير في تسلية كُبرى للاستمتاع أكثر برؤية مشهد النهاية للمربية في المنزل. ولهذا، بطيش وحماقة، سارع إلى والدته وأخبرها بالأمر. لكن لطمته ردة فعل والدته التي لم تبد أية أهمية لقصَّته؛ فلقد كانت والدته من الحكمة ألَّا تطرد المربية على الفور، ليس فقط بدافع تربوي للطفل، لكن أيضًا حتى لا تؤذي مشاعر ابنها الأكبر وتزيد من تعلُّقه بالمربية، وفي الوقت نفسه تقتص من سمعة ابنها وسمعة منزلها. لكنها بعد عدة شهور، صرفت المربية بهدوء وكأن الأمر غير مقصود. ويستطرد الضابط، الذي تعدّ مهنته رمزًا للانضباط ووجوب التحلِّي بالحكمة، أنه بعد سنوات، تزوَّج أخوه المربية نفسها. لكنها كلّما رأته، لا تستطيع كبح مشاعر الكُره والاشمئزاز تجاهه.
تعلَّم الضابط من تلك الحادثة أن عدم الالتزام بالصمت وأن الخطاب والأفعال الحمقاء، ما هي إلَّا ندبة لا يمكن التخلُّص من أثرها مهما حاول المرء. ومن ثمَّ، يجب على كل أحمق أن يتعلَّم من تجاربه حتى يصل إلى الحكمة، وإلَّا غرق في يمٍّ لا قرار له من الحماقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب