ثقافة وفنون

الذكاء الاصطناعي مهرباً: هجرة بلا سماسرة

الذكاء الاصطناعي مهرباً: هجرة بلا سماسرة

سعيد خطيبي

العالم تحت احتلال؛ هذا ما يتبادر إلى الأذهان عندما نشاهد غزوة الذكاء الاصطناعي، الذي طغى على الحياة ولم يترك مجالا لم يتسلل إليه، بل إنه احتل الأمكنة كلها، من الطب إلى التعليم، من صناعة السيارات إلى السفر في الفضاء، من الزراعة إلى الرياضة، فهل يوجد حيز واحد لم يقع تحت سطوة الآلة؟ بل إنها دخلت المجالات الحيوية وصرنا تحت رحمتها. لم تعد الحياة ممكنة من غير استعانة بالذكاء الاصطناعي، هذا الذكاء الذي بات يختصر الجهد والوقت والمسافة. صار يسهل المهام كلها مع الحد الأدنى من الجهد البشري.
وإلى وقت قريب لم يكن يفكر أحد أن نصل إلى اللحظة الراهنة، بأن نصير تابعين له، بل إن روايات الخيال العلمي وكذلك الأفلام في هذا المجال ظلت متريثة في تخيلها لهذه الحالة، لم تغامر بكتابة أو سيناريوهات تتنبأ بما وصلنا إليه. لكن الواقع يمشي بسرعة أقصى من الخيال. ويبدو أن السنين المقبلة سوف تحيل الإنسان إلى تقاعد مبكر أو عطالة.. لأن الحاجة إليه في تقلص. ومهما بلغ من كفاءات فلن يتفوق على الذكاء الاصطناعي في الأداء.

ولكن الشيء الذي لم نفكر فيه ولم يخطر على بال أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مرشد في الهجرة، ونقصد منها الهجرة غير الشرعية. فقد التقيت، منذ أيام، بمهاجر غير شرعي، وأظنه الأول من العالم العربي، أو بالأحرى الأول في العالم، الذي قطع الطريق من شمال افريقيا إلى أوروبا، مرورا بتركيا، من غير أن يدفع عمولة، من غير أن يصرف دينارا واحدا. لم يحتج إلى مرشد ولا أن يستفسر من عبروا الطريق من قبله. لم يساوره خوف إزاء ما يفعل، ولم يحتج إلى من يتستر عليه أو يأويه خفية عن الأعين، بل قطع الطريق مستعينا بتطبيق (شات جي بي تي). ونجح في الوصول إلى فيينا من غير دعم من أحد ولا إسناد، بل متكلا على الذكاء الاصطناعي، الذي قدم له خدمة يعجز عنها عشرات الأشخاص، فقد أنجاه من دوريات الأمن ومن المراقبة، وأفلح في النجاة من أعين المارة والفضوليين، ووصل إلى وجهته مستعينا بجهاز موبايل وبتطبيق الذكاء الاصطناعي. هذه الحكاية التي رواها لي تجعلنا نفكر، بشكل آخر، عن مصائرنا في الزمن المقبل، وكيف أن الآلة لم تغير من سلوكات الناس فحسب، بل سوف تغير من علاقاتهم مع الأمكنة، وفي تنقلاتهم بين الجغرافيات.

(ف) هو شاب لم يتم العشرين من عمره، وعلى غرار شباب في سنه، حلم بالوصول إلى الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط، لكنه مثل آخرين كذلك تخوف من امتطاء قارب، بحكم أن المخاطر في تعاظم، كما إن تكلفة ركوب قارب قد زادت، في السنين الأخيرة، وصارت تناهز ثمانية آلاف دولار، وهو رقم يعجز عليه موظف أو عامل في شركة، فما بالك بشاب في سنه، لذلك قرر أن يسلك طريقا آخر. طار إلى تركيا، وبمجرد أن وطأت قدماه مطار إسطنبول، لم يعد له رفيق سوف جهاز الموبايل، الذي أتاح له البحث قصد الوصول إلى مرقد منخفض التكلفة، مع العلم أن هذا الشاب لم يكن يحمل معه أكثر من 700 دولار. هذا المبلغ سوف يوصله إلى فيينا. فبعد أن قضى ليلتين في أسطنبول، استعاد فيهما أنفاسه، قضاهما في استرخاء وفي التحضير لخريطة الطريق، استأنف المشوار إلى أدرنة، الواقعة في شمال غرب تركيا. وهناك قطع بضعة كيلومترات، بعد تسلق شباك عازل، ووصل إلى اليونان. فالعملية لم تكن صعبة، كما يقول. لأن الذكاء الاصطناعي ساعده في تفادي الأمكنة التي تحرسها أعين دوريات الأمن وكاميرات المراقبة، ثم واصل مسيرته تارة على الأقدام وتارة بركوب حافلة، وهو متظاهرا بأنه سائح، تجنبا للفضوليين أو النمامين، ولم يشك أحد في هويته. إلى أن بلغ سالونيك. ومن هناك باشر المرحلة الثانية من الرحلة، التي قادته إلى مقدونيا، صربيا، ثم هنغاريا، قبل أن يحط الرحال في النمسا، سالما معافى من غير أن يتعرض إلى أذى. في رحلة دامت أسبوعين تخللتها استراحات في مراكز عبور، أو مأوى لاجئين، وهي استراحات استغلها في استعادة أنفاسه، وفي تحديد النقاط التي يمشي عليها، في كل مرة كان يرسم خريطة للطريق الذي يتحتم عليه المضي فيه.

أما المبلغ الذي جلبه معه فلم يصرف منه سوى للأكل والشرب وفي شحن هاتفه، من غير أن تعترض طريقه حواجز الأمن، ولا أن يضطر إلى بصم وثيقة واحدة، في الدول التي عبرها، قبل دخول الاتحاد الأوروبي. هذا ملخص الهجرة غير الشرعية التي خاضها شاب، لم يتم العشرين من عمره. ونجح في الوصول إلى وجهته مستعينا بالذكاء الاصطناعي. فهل هذه الحالة من شأنها أن تثير قلقا جديدا في أوروبا، التي تصرف الملايين كل عام، في حراسة حدودها؟ وتوقظ كوابيس اليمين الذي يخشى وصول المهاجرين؟ هذا سؤال يدخل في حيز السياسة، بينما يعنينا في هذا المقال حيز الذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد يكتفي بخدمة الإنسان في مشاغله اليومية، بل صار يرشد خطواته، ويرسم له الطريق من الجنوب إلى الشمال، ويتيح له سبل عبور الحدود، من غير ضيق أو حرج. وبفضل موبايل وتطبيق (شات جي بي تي) تمكن هذا الشاب من التنقل بين البلدان من غير أن يحتاج إلى تخطيط معمق، كما جرت عليه العادة في السابق، ومن غير أن يحتاج إلى مرشدين، ولا إلى سماسرة طريق. أتاح له الذكاء الاصطناعي الخيارات الأسهل والأكثر سلاسة. ومن المحتمل أن يصير الذكاء الاصطناعي كذلك محرضا في الهجرة غير الشرعية، نظرا إلى التسهيلات التي يتيحها للمقبلين عليها. فقد صارت حياة البشر في قبضة هذا الذكاء، ولم يعد مجال واحد ينجو منه. ونظن أن الأدب هو الحيز الأخير الذي بوسعه مقاومة زمن الآلة. وأن المبدع يترتب عليه جهد أكبر وعقل أكثر إبداعا، كي لا يصير بدوره طعما في يد الذكاء الاصطناعي. بما أن الذكاء الاصطناعي صار الحاكم في الواقع، فالرهان مستقبلا ألا يصير سيدا على المخيلة كذلك.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب