مقالات

إسرائيل توسّع «الردع الاستباقي»: جنوب سوريا لنا

إسرائيل توسّع «الردع الاستباقي»: جنوب سوريا لنا

يحيى دبوق

وجّه جيش الاحتلال الإسرائيلي رسالة سياسية – عسكرية مباشرة إلى النظام السوري الجديد، عبر ضربة جوية نفذها بالقرب من قصر الرئاسة في دمشق، إضافة إلى جملة ضربات ضد تشكيلات تابعة له، تخوض مواجهات مع مجموعات درزية في سوريا، في أكثر من منطقة في الجنوب. وجاءت الضربة الأحدث بعد ساعات فقط من احتجاجات درزية حاشدة داخل إسرائيل، طالبت حكومة الكيان بما سمّته «التدخل لوقف العنف الطائفي المتزايد ضد الدروز في سوريا»؛ كما ترافقت مع تهديدات صدرت عن رأس الهرم السياسي في تل أبيب، بضربات أقسى وأشد تأثيراً في دمشق، ما لم تعمل الأخيرة على وقف الهجمات الداخلية على الدروز.

على أن شعار «حماية الدروز»، والذي تتلطّى خلفه إسرائيل، يمثّل جزءاً من عدّة لازمة لإستراتيجية أوسع، تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الأمني والجيوسياسي في الجنوب السوري، بما يتماشى مع مصالح الكيان، والتي أعيد تعريفها عقب هجوم «طوفان الأقصى»، وما تزال تجلياتها متواصلة على أكثر من جبهة إقليمية. وفي المقابل، فإن أعمال العنف التي تطال الطائفة الدرزية في أكثر من منطقة في سوريا، والممارسات العدائية التي ترتكبها الميليشيات التابعة للنظام الجديد، تخدم في نهاية المطاف مصالح إسرائيلية طويلة الأمد؛ إذ تتيح للقيادة في تل أبيب تسريع تنفيذ خططها التوسعية، عبر اتّخاذ العامل الإنساني غطاء لتحركاتها السياسية والعسكرية، وتقديم نفسها «حارساً» للطائفة الدرزية.

ومن هنا، يمكن القول إن أداء النظام الجديد يبدو مؤاتياً لإسرائيل في أكثر من اتجاه:
أولاً: تعزيز قابلية الطائفة الدرزية لطلب المساعدة الإسرائيلية بشكل صريح، ما يعطي «شرعية» عملية لتدخّل الكيان، تبدو مطلوبة بشكل ملحّ بالنسبة إلى الأخير، وإن يَظهر حالياً أنها عامل هامشي، نتيجة المقاربة الإسرائيلية العامة، والتي تستند إلى المصالح فقط، من دون اكثراث بالتداعيات. وهكذا، فإن استمرار الهجمات الطائفية في بعض المناطق السورية، من شأنه خلق دينامية محلّية لمصلحة التدخل الإسرائيلي المباشر، خصوصاً أن الرأي العام الدرزي داخل إسرائيل نفسها، يساعد في تشكيل تلك الدافعية، ويمثّل عاملاً محفزاً لإسرائيل في إطار ما تسمّيه الأخيرة «الدفاع عن الإخوة».

ثانياً: كسب نوع من «الشرعية الدولية» لدى الجهات الخارجية ذات المصلحة في الشأن السوري، خصوصاً الولايات المتحدة، التي ما تزال تسعى إلى إعادة ترتيب الوضع السياسي والأمني في سوريا. إذ إن الهجمات والتهديدات العنيفة، والتي تَعقب كل «تحرّش» بالدروز في سوريا، تُستخدم كوسيلة لإقناع واشنطن بإعطاء تل أبيب مساحة مناورة أكبر في هذه الساحة، خاصة في ظلّ التنافس بين تركيا وإسرائيل على توزيع النفوذ في مرحلة ما بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق، بشار الأسد، وحسبان تل أبيب، الوقت الحالي، الأنسب لفرض نفسها كقوة فاعلة ومؤثرة في سوريا.

لا تعني التهديدات والضربات الإسرائيلية المتكرّرة في سوريا، بالضرورة، أن إسرائيل تسعى إلى إسقاط النظام الجديد

ثالثاً: يبدو أن النظام الجديد برئاسة أحمد الشرع، غير القادر على تغيير هويته أو اتباع سياسة براغماتية مؤقتة تمكنه من كسب الثقة الدولية أو حتى المحلية، ما يزال عاجزاً عن الإمساك بالقرار الأمني في بعض المناطق، أو ضبط الميليشيات والفصائل المتطرّفة، وهو ما يضعف من مصداقيته، ويعطي إسرائيل ذريعة إضافية لمواصلة ضغوطها. كما إن الانقسام الداخلي في سوريا، وغياب المركزية والقرار الموحد الصارم والملزم بين الفصائل الصاعدة، يعزز من رهان إسرائيل على أن هذا النظام لن ينجح في بناء دولة مستقرة، ويدعم بالتالي سرديتها التي تقوم على أن تدخلها ضروري لضمان أمنها. أما رجال الشرع وميليشياته فيبدو أنهم عاجزون فعلياً عن استيعاب وجوب انتقالهم من حالة الميليشيات إلى حالة الدولة، ويقدّمون لإسرائيل ما تريده عبر تطرّفهم الأعمى وعدائهم للآخر.

رابعاً: رغم كل ذلك، يبدو مفيداً التذكير بأن «المساندة» التي تقدمها إسرائيل لدروز سوريا، بجميع أشكالها، ليست إلا أداة ضمن إستراتيجية مرسومة ومدروسة، كانت تنتظر عواملها وظروفها المناسبة للدفع بها قُدُماً، وهدفها النهائي اقتطاع جزء من سوريا وضمّه إلى إسرائيل.

خامساً: لا تعني التهديدات والضربات الإسرائيلية المتكرّرة في سوريا، بالضرورة، أن إسرائيل تسعى إلى إسقاط النظام الجديد، بل هي تسلّط عليه وسيلة ضغط سياسية وعسكرية بهدف منعه من محاولة استعادة السيطرة الكاملة على الجنوب، وخاصة المناطق القريبة من حدود الكيان. بتعبير آخر، لا تريد تل أبيب إحداث فوضى شاملة، بل هدفها خلق حالة من «الردع الاستباقي»، تمنع النظام من التفكير في أي تحرك قد يهدّد مصالحها أو بسط سلطته التي هي بطبيعتها غير ثابتة وغير مستقرة، وتابعة لنفوذ الخصوم من المتدخلين الإقليميين الآخرين، والمقصود هنا الجانب التركي. وفي حال لم تُجدِ الدينامية الحالية في تمكين إسرائيل من إحكام سيطرتها، المباشرة أو غير المباشرة، على الجنوب السوري، فإن الكيان سيلجأ إلى تصعيد اعتداءاته، ضمن ظروف لاحقة.

بالنتيجة، وسواء بقي أحمد الشرع في الحكم أو تغيّر المشهد مستقبلاً في اتجاه استبدال رأس النظام بآخرين من أقرانه الأكثر تطرّفاً أو الأقلّ نسبياً، فإن إسرائيل تريد إنشاء منطقة عازلة أو «منزوعة السلاح»، تمنع فيها أيّ وجود عسكري آخر غير تابع لها. كما إن استمرار الفوضى وعدم الاستقرار هما السيناريو الذي ترى فيه تل أبيب غاية بذاته، كونه يفتح المجال أمام تدخلات متكررة من جانبها، لفرض ما تريده بالقوة من دون تنازلات قد تُفرض عليها عبر تسويات مع جهات متدخلة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب