مقالات

بين الحضارة والهمجية…

بين الحضارة والهمجية…

سهيل كيوان

نتنياهو ليس معنيًا بصفقة مثل السابقات، لأن الصفقة التي تطلبها حماس تعني وقف حرب الإبادة وبالتالي وقف مشروع التهجير، ولكنه يريد اتفاقًا يتيح له الاستمرار في مشروع الإبادة والتهجير…

التلاعب في المعاني والألفاظ وخلطها وتشويه وقلب الحقائق رأسًا على عقب، هو ضرورة لتبرير وتغطية الكذب والتشويه الذي يُمارس على أرض الواقع. المجرم يختلق الأعذار والمبررات لجريمته، ويضطر إلى الكذب.

نتنياهو، في تغريدة له على موقع “إكس”، طالب دولة قطر بأن تقرر هل هي مع الحضارة أم مع البربرية، متهمًا إياها بالوقوف إلى جانب حماس خلال توسطها للوصول إلى صفقة تبادل أسرى ووقف الحرب. أما الحضارة التي يتغنى بها ويسوقها نتنياهو، فهي حرب إبادة وجرائم حرب متواصلة يوميًا بشتى الطرق والوسائل.

يكفي منع دخول المساعدات الإنسانية وتجويع الناس واضطرارهم لأكل الأعشاب وأوراق الشجر، ووقوف الآلاف من الجائعين والتدافع للحصول على وجبة حساء من التكايا التي تُستهدف هي الأخرى، فتختلط الدماء بالطعام والرمال والجثث المحترقة. هذا يسميه المطلوب للاعتقال في محكمة الجنايات “حضارة”، ويطلب من دولة قطر أن تقف إلى جانب هذه الحضارة!

المميز في كذب نتنياهو أنه أسود واضح وصريح، ومن غير رتوش ولا يحتمل التأويل إلى وجهين. فهو يصف قتل حوالي عشرين ألف طفل في قطاع غزة حضارة، وتجويع أكثر من مليوني إنسان مستخدمًا التجويع كسلاح للضغط على الناس حضارة، ويزعم أنه يستخدم كل الوسائل المشروعة للنصر على من يسميهم “حماس-داعش-النازي، البربرية”.

هدم مدن كاملة ومسح معالمها الحضارية والتاريخية هو حضارة.

ما يطلبه نتنياهو من قطر، في الواقع، هو أن تصطف إلى جانب الاحتلال في موقفها مثل دول عربية أخرى، أن تمارس نفوذها لإطلاق الرهائن والأسرى من غير التزام إسرائيلي بوقف حرب الإبادة بحجة محاربة حماس، علمًا أن قطر كانت أحد الوسطاء الأساسيين في صفقات التبادل التي أُنجزت حتى الآن، والتي بفضلها أُطلق سراح أكثرية الرهائن والأسرى الإسرائيليين مقابل أعداد من الفلسطينيين، وتحقق وقف مؤقت لإطلاق النار.

نتنياهو نقض الاتفاق الأخير الذي نص على بدء المرحلة الثانية لصفقة توقف الحرب.

نتنياهو ليس معنيًا بصفقة مثل السابقات، لأن الصفقة التي تطلبها حماس تعني وقف حرب الإبادة وبالتالي وقف مشروع التهجير، ولكنه يريد اتفاقًا يتيح له الاستمرار في مشروع الإبادة والتهجير، ويريد من قطر أن تتواطأ معه في مشروعه “الحضاري”، وهو ما ترفضه دولة قطر، ولهذا فهي متهمة بالوقوف إلى جانب ما يسميه البربرية.

من جهة أخرى، وبسبب الحصار والتجويع، عقد شيوخ بعض العشائر في قطاع غزة مؤتمرًا صحفيًا ناشدوا فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأن يتدخل لفتح المعبر وإدخال المساعدات الإنسانية إلى الجائعين في قطاع غزة لمنع كارثة مجاعة باتت وشيكة.

لا نتوقع شيئًا من السيسي، فهو في الجانب “الحضاري” كما يبدو، وحال أهل قطاع غزة مثل حال الأيتام على موائد اللئام.

في بدايات الحصار، حاولت دول عربية أن تظهر موقفًا استعراضيًا بإلقاء المساعدات من الجو، ومنها مصر، وقد سوقوا موقفهم هذا أمام شعوبهم وأمام أهالي قطاع غزة كعملية بطولية، وظنوا أنها بضعة أيام وتستسلم المقاومة.

لكنهم أساؤوا التقدير، فقد استمرت المقاومة، وهذا كشف الحقيقة حتى النهاية بأن هذه الأنظمة، وعلى رأسها النظام المصري، متواطئة وشريكة في حصار قطاع غزة.

فهي لم تقم بأي ضغط جدي ولو بالحد الأدنى لإدخال المساعدات ومنع المجاعة، سوى مناشداتها الدولية الباهتة بأن “مواصلة الحرب لا تخدم استقرار المنطقة ولا إطلاق سراح الرهائن”، وأن مصر ترفض التهجير، ولن تتنازل عن حبة من رمال سيناء. فهل يرفض النظام المصري التهجير حقًا؟ أم أنه موقف يتهرب من المسؤولية من خلال هذا الموقف؟

رفض التهجير لفظيًا، دون أن يرافقه عمل حقيقي، هو في الواقع انتظار لما ستسفر عنه الإبادة الجماعية والتجويع.

ما يجري لأهل قطاع غزة أسوأ من التهجير نفسه.

الحكم بالإعدام جوعًا وحرقًا وتسميمًا وتعذيبًا وتنكيلا، أسوأ من التهجير الذي يزعم نظام السيسي معارضته.

موقف الحياد من عدم إدخال مساعدات إنسانية، هو تواطؤ مع المحصلة التي ستكون تهجيرًا لسكان قطاع غزة، وهو تنفيذ فعلي لمشروع التهجير الذي يقوده داعية الحضارة نتنياهو.

إذا فُتحت المعابر الآن، وخُيّر أهل القطاع بالخروج أو البقاء في ظل المجاعة، لغادر أكثرهم وهاجروا لأنهم بشر، ومن حقهم الحياة.
فالهجرة حق وضرورة عندما يكون الخيار الآخر هو الموت جوعًا أو حرقًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب