مقالات

مأساة فلسطين تفرض نفسها على احتفالات أوروبا

مأساة فلسطين تفرض نفسها على احتفالات أوروبا

د. سعيد الشهابي

بينما تحتفل أوروبا وأمريكا بالذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، تتحرك في أذهان الكثيرين خلجات الحزن والفرح ومشاعر اليأس والأمل إزاء واحدة من أهم نتائجها. فالمفترض أن يترتب على إنهاء معاناة اليهود في معسكرات النازية انتشار الأمن والسلام في العالم، وليس نقل الأزمات التي أدت لتلك الحرب المدمّرة إلى مناطق أخرى.
وليس جديدا القول بأن قيام الكيان الإسرائيلي جاء نتيجة الشعور الأوروبي بعقدة الذنب لما عاناه اليهود من اضطهاد في قلب أوروبا. ولكن هل المعقول تحميل أهل فلسطين مسؤولية ذلك؟ لماذا لم يتبرّع الحلفاء بوطن قومي لليهود بدلا من احتلال فلسطين وتهجير أهلها؟ في أجواء الاحتفاء بيوم النصر في أوروبا، يعيش أهل فلسطين ليس حالة التشريد والاضطهاد فحسب، بل أوضاعا معيشية أوصلتهم إلى حافة المجاعة. فقد فرضت «إسرائيل» على سكان غزّة أجواء من الحصار والحرمان أدّت إلى تضاؤل الطعام والدواء ونجم عن ذلك حالة من الإحباط لا تتناسب مع مشاعر البهجة الأوروبية. وظهر بعض سكانها وقد بدت آثار تلك المجاعة على أجسادهم، واستحضر الكثيرون مشاهد ضحايا النازية الذين عانى بعضهم من المجاعة والحرمان آنذاك. فلماذا يتم نقل التجربة الأوروبية إلى فلسطين؟ وما الذي اقترفه أهلها من جرم يستحقون به التعرّض لأبشع أساليب الحرمان من الطعام والدواء؟
قد يكون حدوث «مجاعة» في بعض البلدان نتيجة ظروف طبيعية مفهوما، ولكن أن تحدث في مناطق غنية بالانتاج الزراعي فذلك أمر يستعصي على الفهم إلا عندما يكون مفتعلا. وهذا ما يحدث في قطاع غزة المحاصرة منذ أكثر من عام ونصف بقرار سياسي مدعوم من كبرى دول العالم. وبرغم الدعم الغربي المطلق لكيان الاحتلال، فقد اخترقت أخبار تلك المجاعة جدران الصمت ووجدت طريقها إلى وسائل الإعلام من جهة والمنظمات الإغاثية من جهة أخرى. إنها مجاعة مقصودة تُستخدم كسلاح يضاف لأسلحة التدمير الأخرى التي تُمارس ضد السكان المستهدفين بشكل ممنهج منذ عقود. إنها مجاعة رُسمت خططها بشكل محكم وتم تنفيذ فصولها بانتظام، في ظل تغاضي العالم عما تمثله من جريمة مكشوفة مدعومة بكيان يتمتع بعضوية الأمم المتحدة ومنظماتها. وهي بالتالي جريمة منظّمة تستمر ممارستها بدون توقف أمام مرأى العالم ومسمعه. وتكفي صور ضحاياها لإعادة مشاهد الأجساد التي تحوّلت إلى هياكل عظمية بسبب المجاعة، خصوصا الأطفال الذين تؤكد الجهات الدولية أنهم يدفعون الثمن الأكبر لها.
ما حقيقة المجاعة التي تتحدث عنها التقارير الإعلامية والمهنية؟ وما دور دول الغرب في السماح بحدوثها؟ وأين هو الدور العربي الذي يتصدّى لها بما هو متاح من وسائل وأساليب؟ وربما الأهم: ما جدوى الحديث عن منظومة حقوق الإنسان إذا استمرت هذه المجاعة وتساقطت الأجساد ضحايا لها؟ أين هو منطق العدالة حين تظهر المجاعة في منطقة محاصرة ألى جانب التخمة والبدانة في المناطق المجاورة؟ إنها قضايا تتحدى الضمير الإنساني وتساهم في كسر معنويات البشر ذوي الضمائر المتحركة الذين صدمتهم مشاهد المجاعة ولكنهم يشعرون بعدم القدرة على القيام بدور لوقفها. وهكذا تستمر الحياة في القرن الحادي والعشرين بالنمط الذي سارت عليه قبل بدء التاريخ، وكأنّ الزمن بقي جامدا عند الصراعات البينية في مراحل ما قبل التاريخ، بدون أن يكون للتطور البشري في مجالات التشريع والتنظيم دور في منع تكرر مآسي تلك الصراعات. المشكلة هذه المرة أن مجاعة أهل غزة متواصلة منذ أن فرضت قوات الاحتلال حصارا بحريا وبرّيّا شاملا تكثف بعد حوادث 7 أكتوبر 2023 على أهلها بهدف كسر شوكتهم وتطويعهم للاستسلام للاحتلال. وأضاف الرئيس الأمريكي للأزمة بعدا آخر عندما اقترح ترحيل أهلها إلى البلدان الأخرى وترك الأرض له ليقيم عليها مشروعا مرتبطا بامبراطوريته التجارية. إنها واحدة من وقائع التاريخ التي تنطق بالقذارة وتكشف مدى ما يمكن أن يصل البشر له من انحطاط أخلاقي وقيمي بدوافع المال والسلطان. فما يزال ترامب في منصبه يكرر تصريحاته المقززة، ولا يخشى التعرض لمحاسبة قانونية لما يصرّح به ويدعو إليه من إجراءات تنتهك القانون الإنساني الدولي.

في أجواء الاحتفاء بيوم النصر في أوروبا، يعيش أهل فلسطين ليس حالة التشريد والاضطهاد فحسب، بل أوضاعا معيشية أوصلتهم إلى حافة المجاعة

ما أكثر تفصيلات المشهد الدرامي الذي تتوسع دائرته بمرور الوقت. والحديث هنا ليس عن مدينة أخرى كالخرطوم التي تعاني من صراعات فئوية يدفع المدنيون أثمانها بأشكال شتى تمثل المجاعة أحد أبشع وجوهها. كما أنه ليس عن أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي التي عانت من الجفاف والمجاعة في الثمانينيات عندما انبرى العالم لإغاثة أهلها، وكان لأغاني بوب جيلدوف دور في إطلاع العالم عليها. يومها لم يكن لوسائل التواصل الاجتماعي دور في بث الأخبار في أرجاء العالم على نطاق واسع، على عكس الواقع الحالي. فبعد توسع وسائل التواصل الاجتماعي لا تستطيع جهة أن تدّعي عدم علمها بما يجري في غزة من تدمير واسع النطاق استعاد من التاريخ المعاصر بعض ما جرى في الحرب العالمية الثانية من دمار واسع النطاق وفقد غير محدود للحياة. تتعدد الأسباب المطروحة لتفسير ما يجري، ولكن الحقيقة تبقى واحدة وجليّة: أن هناك استرخاصا مقيتا للنفس الإنسانية وأرواح البشر وتجاهلا مطلقا للقيم والأخلاق، وغيابا للضمير.
التجويع الذي يُفرض على غزة تشترك فيه أطراف شتى، تسعى جميعا لإبقائه خارج الرادار، ولكن السقوط المتواصل لضحاياه يستعصي على الإخفاء والتهميش. ويكفي مشهد طفل واحد تحوّل جسده الغض إلى هيكل عظمي تتلاشى قدرته على الحركة يوميا لكشف تبعات السياسات الإسرائيلية التي تدعمها واشنطن وتتماهى معها أوروبا وتغض الطرف عنها بقية دول العالم. لقد سعى المحتلون بما لديهم من إمكانات ودعم دولي لفرض هيمنتهم وإنهاء القضية بأساليبهم ولكنها بقيت تطاردهم منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن. وإذا كانوا يعتقدون أن سياسة التجويع ستؤدي إلى إبادة سكان غزة لكي يصفو لهم الجو، فما أبعدهم عن الحقيقة. لقد بقيت القضية تطاردهم حتى وصلت إلى محكمة الجنايات الدولية التي وافقت على محاكمة رموز الاحتلال بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. صحيح أن أمريكا وحلفاءها يبذلون جهودا متواصلة لمنع حدوث ذلك، ومنها قرار واشنطن وقف الدعم للمنظمات الدولية ومنها محكمة الجنايات، ولكن ذلك جهد غير مجدٍ. وبدلا من أن تتصدر الولايات المتحدة العمل الدولي وتمارس دورا محوريا في المنظمات المعروفة مثل محكمة العدل ومحكمة الجنايات واليونيسكو ومجلس حقوق الإنسان، وجدت نفسها، مدفوعة للانسحاب من بعضها وبدء مشوار جديد نحو الانعزال. وها هي تشارك أوروبا الاحتفاء بالذكرى الثمانين لما يسمى يوم النصر في أوروبا، الذي حدث في 7 و 8 مايو 1945. ففي ذلك اليوم قبلت قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية الاستسلام غير المشروط من جانب قوات الجيش النازي ونهاية الرايخ الثالث لأدولف هتلر. ففي يوم 30 أبريل انتحر هتلر أثناء معركة برلين وأعلن الاستسلام من قبل خلفه الرئيس كارل دونيتز. وعرفت الحكومة التي قادها دونتز باسم حكومة فلنسبورغ.
تمر هذه المناسبة هذا العام متزامنة مع استمرار أجواء الحرب في الشرق الأوسط، والتلويح المستمر بتكرار مآسي أكبر حرب خاضتها البشرية. وثمة تناقض واضح بين سعي حكام «إسرائيل» للانتقام من الفلسطينيين، ومحاولاتهم تذكير العالم بما تعرّض له اليهود في أوروبا. وكان الأجدر بهم أن يظهروا مشاعر إنسانية مختلفة تماما للحفاظ على ما توفر لهم من تعاطف أوروبي واسع عندما استهدفتهم النازية. بينما الذي يحدث مغاير لذلك تماما. فمشهد الفلسطيني المشرّد واللاجئ والمعتقل والمقتول في الشارع والجائع، أصبح يستفز شعوب العالم، وخسرت «إسرائيل» بذلك تعاطف أغلب تلك الشعوب، حتى أصبح علم فلسطين شعارا للمناضلين ليس في ما يسمى «الجنوب العالمي» فحسب بل حتى في أوساط النخب المثقفة في الغرب. وفي بعض الحالات تحوّلت قضية فلسطين إلى همٍّ سياسي وثقافي في ظل احتدام الصراع بين داعمي الشعب الفلسطيني والحكومات الغربية التي تصرّ على الاستمرار بدعم الاحتلال الإسرائيلي. ويتفاقم الاختلاف في العواصم الغربية ليرتبط بالأيديولوجية الليبرالية التي تحكم دول «العالم الحر» والتي تدور حول الحرّيّات والحقوق العامّة، وتعتبر حرّيّة التعبير الدعامة الأساسية لتلك المنظومة. هنا أصبحت أوروبا بين ضغطين: الأول تمثله اللوبيات الإسرائيلية التي تسعى لمحاصرة حرّيّة التعبير والاحتجاج والتجمع بعد أن أصبح داعما لفلسطين ورافضا للسياسات الإسرائيلية، والثاني تمثله النخب المتشبثة بالأيديولوجية الليبرالية التي ترفض المساس بالحرّيّات العامة. وهنا تصبح صورة طفل فلسطيني يعاني من المجاعة كافية لإحداث انقلاب في المشهد السياسي الغربي لغير صالح الاحتلال. كما تصبح المجاعة سلاحا ذا حدّين: تستخدمه «إسرائيل» بهدف تركيع الفلسطينيين وكسر شوكة مقاومتهم للسياسة الإسرائيلية الهادفة لقضم قطاع غزة، ويستخدمه الفلسطينيون لإظهار حقيقة الاحتلال وكسب التعاطف الغربي لصالح فلسطين.

كاتب بحريني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب