الفيلم التونسي «الذراري الحمر» … استنطاق صمت الضحايا

الفيلم التونسي «الذراري الحمر» … استنطاق صمت الضحايا
حسام علي العشي
مخرج تونسي
هل تستطيع الضحية أن تعبر وتقول؟ وماذا تستطيع أن تقول أو لماذا تقول؟ هذه هي الأسئلة التي تخترق سردية المخرج لطفي عاشور في فيلمه «الذراري الحمر»، الذي يعرض هذه الأيام في قاعات السينما التونسية، بعد تتويجه بـ»التانيت الذهبي» في الدورة 35 لأيام قرطاج السينمائي سنة 2024. وهي أسئلة متواطئة لأنها، تقبل ضمنا الاقتراح الأساسي الذي يقدمه الفيلم، وهو أننا أمام مشاهدة للضحايا، وهؤلاء مرايانا التي تتحرك أمامنا باستنطاق صمتهم وإعادة تشكيل الحكاية، على اعتبار أن الضحية لا تتكلم، وليس لها صوت كي تخبرنا بما حدث لها، وهنا يكمن أحد أدوار الفن بصفة عامة والسينما بصفة خاصة.
قصة حقيقية
ما فعله لطفي عاشور من خلال هذا الفيلم، المستوحى من قصة حقيقة مأساوية وقعت في جبل مغيلة عام 2015، أعاد تشكيلها عاشور بشكل فني، بعيدا عن التوثيق المباشر أو التأريخ، وإنما مراوحا بين البعد الواقعي والخيالي ممزوجة بدرامة نفسية، استطاع فيها المخرج أن يشد المشاهد لمدة 100 دقيقة، حد الإرهاق النفسي الذي تسرب لنا منذ الدقائق الأولى للفيلم.
في أحد أحراش الشمال التونسي في منطقة شبه معدومة تدور أحداث الفيلم عن «أشرف» وابن عمه «نزار» اللذين يعملان في رعاية الأغنام بين الجبال وسفوحها، بعنفوان الطفولة، رغم الفقر وخشونة الحياة، وفي أقل من عشر دقائق من هذه الروح البريئة للطفلين في بداية الفيلم، يفتح لطفي عاشور بوابة جهنم على مصراعيها ويفاجئنا بهجوم إرهابيين، ويتفنن عاشور في مشهد قطع رأس «نزار» أمام عيني «أشرف» الطفل الذي لم يتجاوز 14 سنة، فيعود برأس «نزار» دون الجثة إلى العائلة، وإخبارهم بالمصيبة، دون وعي بتفاصيل الحكاية.
تضع العائلة رأس نزار في البراد من أجل ألا تتعفن، ويتصل أخ «نزار» بالشرطة وإبلاغهم بالحدث، وإحضار باقي الجثة، لكن تبدو الشرطة غير مبالية بالأمر وتتماطل بحجج واهية. أمام ثقل الواقعة وأثرها على العائلة، فمن أين للطفي عاشور هذه الواقعية الشرسة، التي ترصد ثقل الحزن على «أم نزار»؟ ففي العديد من المشاهد، خاصة وهي جالسة أمام الثلاجة التي فيها رأس ابنها، مطأطأة الرأس، ناهيك من الجو العام على كل العائلة في مصيبتهم هذه.
المأساة
تتراوح القصة بين مأساة خارجية، مع قرار رجال العائلة خوض رحلة الذهاب الى الجبل لإحضار باقي الجثة مع أشرف كدليل إلى الطريق، في رحلة مخيفة بين خوف هجوم الإرهابيين والألغام المزروعة في الطريق الوعرة، ومأساة داخلية معقدة ودراما نفسية تخص أشرف، بالتفاعل مع رؤية شبح ابن عمه في مشاهد تجمع بين الواقع والخيال، بروح، إنسانية وجدانية، وفي الوقت نفسه قائمة على الرجاء من طرف الضحية بإحضار باقي الجثة، أمام محاولات «أشرف» فهم ما حدث، وكيفية التعامل مع هذه الصدمة وواجبه الأخلاقي والعاطفي مع رفيق دربه «نزار»، ورغم هشاشة الطفل «أشرف» على مواجهة هذا الحدث، ولكنه نجح في هذا الأمر، واستطاع أن يتغلب على نفسه وعلى الضغوطات، لإحضار باقي الجثة وقبلها أطلق الكلاب كي تحرس جثة «نزار» من الذئاب.
الذراري الحمر
على الرغم من غرابة ورشاقة عنوان الفيلم «الذراري الحمر» إلا أنه معبر عن حكايته، فكلمة (الذراري) في اللهجة التونسية تعني (الطفل) وما يحمله من براءة، وهذا ينسجم مع «أشرف» محور الفيلم، أما (الحمر) فهو وصف للقوة والشجاعة، وهذا توصيف لقوة الشخصية والتحولات النفسية التي تعيشها نتيجة إكراهات الواقع التي تجعل «أشرف» أحمر، أمام واجبه الأخلاقي تجاه ابن عمه وطاقة الحب التي يحملها تجاهه، بعمقها الإنساني.
العمل الفني
بالعودة إلى الأسئلة المطروحة في البداية، فقد استطاع لطفي عاشور أن يجيب عنها، فما هو معلوم أن الضحايا لا تستطيع أن تخبرنا أصل الحكاية، أو ما وقع عليها، سواء بحدث مباشر أو لحظة استقبال الحدث، فالضحية ماتت فلا نعلم التفاصيل الحقيقة وأثرها على من يهمهم أمرها، فيكون الضحايا مجرد خبر عاجل يتفاعل معه المجتمع، وبعد فترة يؤرخ له المؤرخ، بالتالي تكون الضحية صامتة ولا تستطيع أن تعبر، ولكن تأتي فنون السرد عن طريق الخيال وتستنطق الصمت لتعيد تشكيل الحكاية داخل حركة المكان والزمان بتفصيلاتها وأبعادها النفسية، وهذا ما فعله مخرج الفيلم من خلال سيناريو محكم، وإدارة تمثيل تحاكي الواقع الثقافي، موغلة في المحلية بحس وجداني عميق، إضافة إلى تكوينات بصرية أقرب للفن التشكيلي، في خدمة الدلالات الدرامية المطلوبة، دون جمالية مجانية.
مخرج سينمائي من تونس