
سينما «الجوائز والمهرجانات» شعار للدعاية والإعلان والتسويق!

كمال القاضي
مُسمى أفلام مهرجانات، يُطلق عادة على الأفلام التي لا تجد ترحيباً من الجمهور في دور العرض السينمائية، وتهبط إيراداتها بشكل مُحبط في شباك التذاكر إلى الحد الأدنى، عندئذ تتردد العبارة التقليدية، أن المشكلة ليست في المستوى الفني للأفلام، وإنما تكمن العقدة في المسافة الفاصلة بين جمهور العامة من القاعدة الشعبية العريضة، والأفلام التي تتبنى خطاباً فلسفياً رفيعاً، وهنا يكون الاتهام الضمني غير المُتعمد للسواد الأعظم من محبي السينما بعدم استيعاب اللغة السينمائية الفارقة ثقافياً وفكرياً. تلك هي المُغالطة التي يقع فيها المُنتجون والمخرجون ونجوم الأفلام، وفي بعض الأحيان النُقاد، الذين يجتهدون في تبرير عجز عينة من الأفلام عن الوصول إلى غايتها في تحقيق المكسب الجماهيري والمادي، باعتبار ذلك هو الغاية الأسمى لأي سلعة تستهدف الربح.
وفي الحقيقية أن الزعم بوجود سينما للمهرجانات، وأخرى للجمهور هو إدعاء في غير محله، لا يستند إلى حقائق أو مرجعيات، فهناك الكثير من الأفلام التي جمعت بين النجاح الجماهيري والقيمة الضمنية، إذ توافرت فيها عناصر الجذب كاملة، دون تصنيف أو تفرقة، بين ما هو ذهني وما هو وجداني، فلغة الجمال واحدة ووسائل التواصل عديدة، صورة جيدة وفكرة واضحة، ومضمون مفهوم، وتقنيات تُحقق مستوى جيدا للعمل الفني بلا تعقيد.
إذن المُعادلة بسيطة ولا تحتاج لاختراع كيميائي خاص، كي يصل الفيلم إلى الجمهور المُستهدف، فما يُفسد العلاقة بين العمل الفني الإبداعي والمُتلقي، هو ذلك التصنيف الذي يفرض مُغالاة في طرح الأفكار وفق أنماط غريبة تبتعد بدرجة كبيرة عن البساطة، وتتبنى شعارات ليس لها وجود إلا في أذهان أصحابها فقط. أما السينما وعلاقتها الطبيعية بالجمهور فهي خاضعة للمُعطيات المُتفق عليها منذ بداية الاختراع الخيالي المُدهش، والمُتمثلة في الصورة والفكرة والموضوع والحوار والإطار، فإذا توافرت كل هذه البنود بشكلها الطبيعي، صارت العلاقة سوية وحقيقية بين السينما وجمهورها الذي لم يتبدل ولم يتغير منذ أكثر من مئة عام.
على مدى تاريخها قدمت السينما نماذج متباينة من أفلام، منها الكلاسيكي، ومنها الحديث، واضطلع كل صاحب مدرسة بطرح ما يروق له تبعاً لأفكاره وثقافته وقناعته الشخصية، ففيلم «المومياء» للمخرج شادي عبد السلام، على سبيل المثال، طرح طرحاً تاريخياً خاصاً عن الحضارة المصرية، واعتبر واحداً من الأفلام العالمية شديدة الأهمية، بينما برع نيازي مصطفى وهو المخرج الرائد في مجال الحيل والخدع السينمائية في تقديم الكوميديا بطريقة سهلة وبسيطة، عبر فيلمه الشهير «سر طاقية الإخفاء» الذي كان سبباً مباشراً في نجاح غالبية أبطاله، عبد المنعم إبراهيم وتوفيق الدقن والطفل أحمد فرحات.
كما أن ليوسف شاهين أفلاما كثيرة تراوحت ما بين السهل المُمتنع كـ»باب الحديد» و»الأرض» و»جميلة بوحيرد»، والمُركب والفلسفي كـ»المصير» و»حدوته مصرية» و»اليوم السادس» وغيرها من النماذج التي قدمها في أواخر مشواره الفني كالفيلم الغنائي «سكوت حنصوّر». كذلك مزج المخرج صلاح أبو سيف بين أسلوبين مُختلفين في أفلامه، الأسلوب الواقعي المعهود عنه، الذي ترجمه في عدة أفلام، أشهرها «القاهرة 30» و»بداية ونهاية» و»الفتوة» و»شباب امرأة» و»بين السما والأرض»، والأسلوب الرمزي الذي عبر عنه في فيلم «البداية» كحالة استثنائية غيّر خلالها منهجه وطريقته، وفي الحالتين، تواصل أبو سيف مع جمهوره بشكل مُقنع، ولم يغترب معه أحد ولم تُقابل أفلامه بالرفض.
وقد قدم جيل آخر من المخرجين روائع سينمائية بالغة الرهافة والإنسانية، كخيري بشارة الذي قدم فيلم «الطوق والأسورة» وفيلم «يوم مر ويوم حلو» وآيس كريم في جليم» و»إشارة مرور»، ورضوان الكاشف صاحب فيلم «عرق البلح» وفيلم «ليه يا بنفسج» وفيلم «الساحر»، ومثلهما محمد خان صاحب فيلم «ضربة شمس» و»أحلام هند وكاميليا» و»شقة مصر الجديدة» و»طائر على الطريق» و»كليفتي» وغيرها من روائعه الأخرى.
وفي هذا الإطار لا بد من ذكر إبداعات داود عبد السيد، «الصعاليك» و»الكيت كات» و»رسائل البحر» و»أرض الأحلام»، إلى آخر ما تميز به مشواره السينمائي الطويل، وترك من خلاله أثراً كبيراً على مستوى المتعة البصرية والذهنية والاشتباك الإيجابي مع الواقع، بما يُفيد ويساهم في تشكيل الوعي الفردي والجماعي. وبالطبع كان للمخرج عاطف الطيب بصمة واضحة وقوية في هذا الصدد فهو الموهوب صاحب الأفلام المهمة، «البريء» و»ضد الحكومة» و»سواق الأتوبيس» و»ليلة ساخنة».
لم يُصنف أحد أفلام هؤلاء الكبار على أنها أفلام مهرجانات، أو أفلام جماهيرية، كونها متجاوزة لهذه الاعتبارات المُقيدة، ولديها القدرة على إحداث التأثير المطلوب على أي مستوى بلا تحديد، أو توجه لفئة دون غيرها من المُشاهدين، فالسينما هي السينما لا يحكمها إطار معين ولا يمكن وضعها في خانة تُقلص مساحتها وتحجبها عن عموم الشعب بأطيافه وفئاته كافة، فأشد ما يفسد السينما ويُقلل من تأثيرها هو التصنيف القسري للنوع والشكل والوظيفة، كما يُقال عما يُسمى بسينما المرأة أنها تختص بقضايا المرأة وهمومها ومشكلاتها، وهو تصنيف لا محل له من الإعراب، فكل الأفلام على اختلاف نوعياتها ومضامينها تطرح كل القضايا وتُناقش كل المشكلات بلا شعارات أو لافتات أو عناوين براقة.
كاتب مصري