ثقافة وفنون

سُعَار: النملة والفيل في زمن الخوارزميات

سُعَار: النملة والفيل في زمن الخوارزميات

شادية الأتاسي

قد تبدو مفردة سُعَار فجة وغير أنيقة، وقد تبدو نابية قليلاً، لكن أمام فقدان القدرة على الإنصات للألم البشري الحار، في ظل الغزو المتسارع لعالم التكنولوجيا البارد، أليس من المشروع التساؤل: هل أصاب العالم نوعٌ من «السُعار الحضاري»؟
وجدت نفسي أمام هذا السؤال، وأنا أنتهي من قراءة نصَّيْ صديقتي الكاتبة السويسرية كاترين لوفي أحدهما عن رحلتها إلى مالي، البلد الافريقي الفقير في القارة السوداء، والآخر عن تجربة مرت بها مع الذكاء الاصطناعي.
قرأتُ النصين بشغف رغم ركاكة لغتي الفرنسية، أعتقد أنني نجحت لحد ما، ربما لأنني أجد في هذا النوع من النصوص المرتبكة، هوىً لها في نفسي، وأميل إلى ذاك السرد المتوتر الذي يجمع بين البعد الذاتي والسياسي والعالمي. ورغم التباعد الظاهري بين النصين، شعرتُ بأن أحدهما ظلٌّ للآخر. ينتميان إلى عالم واحد، عالمنا المتناقض، المُتلاعب به، الجميل القبيح، وأن ليس هناك إلا خيط هش يفصل بينهما، إذا أزحناه قليلا، لبدا العالم على حقيقته متخماً بالتناقض.
رافقتُ كاترين خطوة بخطوة، وهي تتجول في أزقة العاصمة تمبكتو، تستمع بدهشة إلى السكان، وهم يتحدثون بثقة عن المستقبل والتقدم والنهوض والمشاريع التي ستأتي، متى وكيف؟ لا أحد يعلم.
تفهمتُ دهشتها تماما، فمن الطبيعي أن يندهش القادم من بلد أوروبي مرفّه أمام حيوية الحلم في بلد يعاني من وطأة الاستعمار والفقر، والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية، النفايات وشح الكهرباء في صيف حار وموسم الأمطار. ومع ذلك، هناك خطاب دائم عن «الصمود»، عن «الانتقال»، إلى أين؟ لا أحد يعلم!
هل هو خطاب غوغائي عبثي حالم فعلاً؟
ربما يبدو الأمر هكذا للكثيرين، لكني أعرف هذا الخطاب جيدا، أتفهمه بصورة مختلفة. أتفهم أن الحلم بوصفه سلاحا أعزل، هو ببساطة خريطة حياة ذكية، يصوغ فيها المرء صبره، ويدّرب غضبه، ويرّبي أمله. السلاح الوحيد الباقي: القدرة على الحلم المعادل للأمل.
تناقض مأساوي لكنه حقيقي
نحن في سوية مع اختلاف الظروف والتاريخ والتجربة، عشنا عبء هذا التحدي، حملنا صخرتنا صعودا إلى أعلى التل، دحرجناها مرارا لنمنعها من السقوط، آملين أن نصل ونرى الشمس تشرق علينا من هناك في يوم ما، وقد حدث، لم يكن الأمر عبثيّا بالكامل. لقد سقط الديكتاتور.
في الجانب الآخر من العالم، العالم المنتصر المتكبر، الصورة الخلفية لعالم مالي المقهور، حيث تُصّنع الأسلحة والخوارزميات الذكية. واجهت كاترين صدمة من نوع مختلف، حين طلبت من هذه الخوارزميات chatGpt ترجمة نص كنتُ قد أرسلته لها، أحدثها عن الخراب والدمار الذي أحدثته الحرب في بلدي.
أرادت ببساطة أن تقرأني بلغتها الأم، أن ترافقني في رحلتي الحزينة، في سيارة مستأجرة مهترئة، يقودها سائق عجوز، للبحث عن قبر أمي، على طريق محطم بذكريات الحرب. ماذا حدث؟ فوراً، ظهرت لها رسالة تحذير تقول: ربما ينتهك هذا المحتوى سياسة الاستخدام. ربما ! يا لها من «ربما» ثقيلة، كانت كافية لكي يُمحى النص. دون إذن، دون نقاش. ولما سألتْ الآلة: لمَ هذا الحظر؟ أي جريمة في ترجمة الألم الإنساني؟ جاء الرد معللاً: إنها كلمات قاسية قد تخدش الشعور الإنساني! وعندما سألته سؤالًا جوهريا: أليس من الأجدر أن نلغي الحروب بدلاً من إلغاء النصوص التي تصفها؟ جاء الرد ، يعتذر، يتفهم، يتفلسف، لكن لا ترجمة، أي كوميديا سوداء هذه! لم يكن هناك أي تحريض، أي عنف، أي كراهية. ألا يحق لي أن أقول إن العالم قد أصابه السُعار.
لقد تعرضت كثيرا لمثل هذا الحظر الصامت، وأعرف أن الكثير من الأصدقاء تعرض لها، لقد كتبنا الكثير من المنشورات على فيسبوك، نافذتنا على بلدنا وعلى العالم، نهجو فيها الحرب، وحكومة الأسد الديكتاتورية، وازدواجية المعايير الدولية. ماذا كان يحدث؟ تُحذف المنشورات فورا. تختفي. يُرسل لنا تحذير. وربما تُقيَّد حساباتنا، وربما تُلغى. ماذا كان باستطاعتنا أن نفعل؟ لا شيء، سوى الغضب، والتكهن بوجود «شيفرة بشرية منحازة» تقف خلف هذا الحذف. متناسين أن الآلة لا تفكر، لا تحب، لا تحزن. فقط تقرر. لا يبدو الأمر مشكلة تقنية، ولا حتى أخلاقية. إنه صدع ثقافي وسياسي حقيقي. يبدو أن هذه الأنظمة المسماة «ذكية» تريد أن تقودنا وتعلمنا كيف نفكر ونعيش، تتسلل إلى تفاصيلنا الصغيرة، تسرق منا شغفنا، ابتكاراتنا، اختياراتنا اليومية، ربما قراراتنا المصيرية، تُجاوب، تقترح، ترفّه، تُذكّر، بل تكتب الشعر وتلحن الموسيقى، وقد تكتب رواية.
أحاول أن أرتب أفكاري كي لا أقع في فخ التناقض، فأنا لا أخفي أنه في جانب مني، يبهرني هذا العقل المصطنع الذي أنتجته التكنولوجيا، حيث الروبوتات تخدم البشر، وتضبط إيقاع الحياة، وتخفف عنهم أعباءها، وتجيب على أسئلة صعبة، وتدفق المعلومات والمعرفة. لكن ماذا لو تركتنا هذه الآلات نتبلد في ظل ذكاء لا يحتاج إلى إلهام؟ ماذا يمكن أن يحدث للكائن البشري اليوم في ظل هذا التسارع المخيف لها؟ ماذا لو خرج الذكاء الاصطناعي عن نطاق السيطرة؟ ماذا لو أن هناك يدا قوية تدفعنا إلى النهاية إلى حيث لا ندري.
ماذا يحدث للإنسان حين يُستبدل قلبه بخوارزمية؟
الأمر قد يتجاوز موضوع الرقابة والترجمة والتدخل في تصرفاتنا، إنه تحول جذري في موقع الإنسان من العالم، إلى أمر أكثر خطراً، أشد سميّة، حيث يزداد التفاوت الرقمي بين الدول الغنية، التي تملك مفتاح هذه الخوارزميات الغامضة الملامح، العديمة الرائحة العديمة الألم، التي تعيش بقوة الذكاء البارد، والتي تهيمن فيها الشركات الكبرى على الفضاء التكنولوجي، وبين الدول الفقيرة التي تبدو في مواجهة عبثية مع قوى ضخمة لا تُرى ولا تسأل، لا تملك الحماية ولا التأثير ولا الإمكانات المادية والفنية، تبقى في موقف ضعيف، تعاني من تخلف تكنولوجي واضح. وأمام هذه الفجوة الهائلة، هل أبالغ حين أشبه هذا الوضع، بمثال ساخر: النملة التي تواجه الفيل.
النملة قد تكون مالي البلد المحروم الجائع المحاصر، والفيل هو الشبح الخوارزمي، المتخم بالذكاء البارد بلا طعم ولا لون ولا رائحة.

كاتبة سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب