مقالات

الصراع الديموغرافي الديني في جنوب آسيا

الصراع الديموغرافي الديني في جنوب آسيا

وسام سعادة

هو التصعيد الأشد خطورة الذي تشهده منطقة جنوب آسيا ـ منذ حرب «استقلال بنغلاديش» عام 1971.
فما بين مقتلة السياح في بهالغام و«الثأر» الهندي لهم في «عملية سندور»، يكون التأزم قد بلغ مدى كليّ الخطورة بين نيودلهي وإسلام آباد، حتى ولو أن الحرب المفتوحة بين البلدين لا تزال أمامها عوائق كثيرة.
ليس تفصيلاً أن تختار الهند، المحكومة من حزب يلتزم بعقيدة أن الهند هي الوطن القومي للهندوس – في مجافاة وتطويق لدستورها العلماني – تسمية «عملية سندور» لأعمال القصف الجوي التي طاولت مدناً ومواقع في البنجاب – بما في ذلك موريدكي، في القرب من مدينة لاهور. فالسندور مسحوق أحمر تضعه الزوجة الهندوسية الملتزمة على مفرق شعرها، وتجدده كل يوم، الا إذا ترمّلت. لا يترك نارندره مودي أي مناسبة إلا ويضمنها بعداً هوياتياً. الغاية القول إن الهند لن تكون ثكلى، وأن مقتلة بهالغام إعلان حرب على الهندوس كهندوس. وعليه، ينتظر أن يزداد التشديد من قبل هذا اليمين على القيمة الدينية لكشمير بالنسبة إلى الهندوس. أليست بهالغام هي نقطة انطلاق الحج نحو كهف أمارناث الذي كشف فيه الإله شيفا عن سرّ خلوده لزوجته بارفاتي؟ ألا يطل معبد شنكراشاريا على سرينغار؟ ألا تتحدر فئة من البانديت البراهمان من كشمير، وقد لعب هؤلاء دوراً خطيراً في تسيير أحوال إمبراطورية المغول والممالك الهندوسية على حد سواء، وخرجت من بينهم عائلة آل نهرو – غاندي، غريمة حزب مودي؟
يراد اليوم في الهند تحويل مقتلة بهالغام إلى منعطف خطير. بالتشديد على الحقوق الثقافية الدينية للهندوس بكشمير، على الرغم من أكثريتها الإسلامية التي رفعت مطولا شعار «لا الهند ولا باكستان».
لقد قام اليمين الهندوتفي عام 2019 بإلغاء المادة 370 من الدستور التي كانت تعطي ولاية جامو وكشمير نظام حكم ذاتي موسع يسمح بأن تمتلك دستورها الخاص. قسّم الولاية إلى إقليمين اتحاديين يرتبطان بالحكومة المركزية. أجج ذلك حركة الاحتجاج لسنوات، قُمعت. ثم كان التصعيد من جانب «عسكر طيبة» فدخلنا في اللحظة الملتهبة الحالية، لحظة الصراع الديموغرافي الديني بامتياز.
السياح الذين قتلوا في بهالغام، وبدم بارد، ما كانوا من الحجيج. كانوا في زيارة استجمام وترفيه. وليسوا مشاركين في «أمارناث ياثرا»، مسيرة الحج الصيفية. وقد تكون واحدة من تكتيكات المنظمة الحاكمة في الهند اليوم استخدام هذا الحج بعد شهرين كاختبار قوة.
الهند تكابر منذ تأسيسها كدولة مستقلة على الحقوق القومية للأكثرية المسلمة في كشمير، لكنها لم تستطع نهاية الثمانينيات حماية الأقلية الهندوسية في الوادي، ما أدى إلى تهجيرهم إلى مدينة جامو – العاصمة الشتوية للإقليم – وجوارها. أما الآن فهي تدشن معركة الحق الهندوسي الديني في كشمير!

يبقى أن المعادلة المزمنة أن «دولة المسلمين» قسمتهم وأضعفتهم أكثر فأكثر، ووحدت الهندوس، مرة تحت راية القومية العلمانية، ومرة تحت راية القومية الدينية، ولو أنها وحدة تسبح بتناقضاتها

في المقابل: أي كلام حول الغلواء القومية – الدينية الهندوسية لا يأخذ بعين الاعتبار الباع الطويل لسياسة قتل الهندوس لأنهم هندوس والتي عمرها ألف عام وتخريب معابدهم وازدراء ثقافاتهم هو كلام يريد تغييب عنصر أساسي من تاريخ جنوب آسيا – لا يقل تهافتا عن حصر كل هذا التاريخ في هذا الباب ليس إلا.
مسألة كشمير، على التهابها المزمن والصاعق التفجيري الذي أعاد التذكير بنفسه من خلالها، جزء من كل: الوضع العام لمسلمي جنوب آسيا. هناك 700 مليون مسلم في شبه القارة. أكثر من ثلث مسلمي العالم. منهم 640 مليون سني، و60 مليون شيعي – اثني عشري واسماعيلي. فكرة بناء دولة للمسلمين في جنوب آسيا، «دولة الأطهار» – باكستان، وبدل أن تجمع شملهم، جعلتهم مقسمين بين: باكستان، بنغلاديش، الهند. هذا في مقابل 1.3 مليار هندوسي.
في نصف القرن الأول من تاريخها، لعبت الهند المستقلة على نغمة أنها ليست كباكستان. لا تميز على أساس الدين. بل يمكن أن تتدخل لإنقاذ البنغالي المسلم من الباكستاني الغربي المسلم. في الربع الأول من القرن الحالي أخذ ينتشي المنطق الآخر: أن الهند لن تكون قوية ومقتدرة إلا بإشهار العلاقة العضوية بين الهندوس كرابطة إثنو-دينية وبينها كوطن مقدس. وبدل حجة حزب المؤتمر ضد اليمين الهندوتفي، بأنكم تسعون إلى تحويل الهند إلى «باكستان هندوسية»، صارت حجة حزب مودي أن العدول عن إشهار الانتماء القومي للدين، يعني السماح بالتعايش مع باكستان أخرى، متحركة وضاربة، داخل الهند نفسها، سواء من خلال مشهدية اعتداءات مومباي 2008 أو من خلال مشهدية مقتلة بهالغام مؤخراً. بالتالي، هي معركة ضد «باكستان الداخل»، تستدعي قدراً من التصعيد مع باكستان الخارجية.
إن كانت هذه أجندة من يحكم الهند اليوم، فإن حاضر الـ 700 مليون مسلم في جنوب آسيا لا يسرّ. مسلمو الهند لا يريدون أن يحتسبوا على باكستان. تجربتها لا تشجع – الزعيم الأكثر شعبية فيها الآن، عمران خان، يقبع في السجن (مثلا). لكن حزب مودي ينظر إليهم على أنهم طابور خامس. وضع «اغترابي» لأكبر أقلية في العالم. 205 ملايين من البشر في حالة تيه وجودية.
في الوقت نفسه، الكيفية التي تعاطت فيها تجربة باكستان مع هندوسها قدمت عناصر عديدة لسردية اليمين الهندوتفي.
عندما استقل البلدان، كانت نسبة الهندوس هي الثلث في باكستان الشرقية. رغم كل أعمال التهجير المتبادلة خلال التقسيم عام 1947. مؤسس باكستان، محمد علي جناح، ابتغى تقديم صورة مساواتية للبلد الجديد. بأن قدّم هندوسياً من طبقة الداليت (المنبوذون) لترؤس الجمعية التأسيسية، وليكون أول وزير للعمل في باكستان: جوكندر ناته ماندال. يومها كان مثقف آخر من الداليت، بيمراو امبدكار يقود عملية صياغة الدستور في الهند. بعد إشرافه عليه بسنوات قليلة، اعتبر أمبدكار بأنه، لا يسعه أن يبقى على الهندوسية، كداليتي، واعتنق البوذية وأسس فيها فرقة، ولحقت به جماعة من طبقته.
أما جوكندر ماندال فما أن غاب جناح في سبتمبر 1948، حتى بوشر بالتضييق عليه، واضطر للجوء إلى الهند عام 1950، ثم كانت حملة التطهير المقذعة ضد الهندوس ومعابدهم في باكستان الشرقية مطلع الخمسينيات.
كان هذا قبل أن يتحول الرأي في البنغال المسلمة أكثر فأكثر ضد «الاستعمار» الباكستاني الغربي لها، ويتخذ القمع لحركتها الانفصالية طابعها إبادياً مطلع السبعينيات. يومها استغلت الهند تدفق عشرة ملايين لاجئ إليها، لتتدخل وتفرض بالقوة استقلال ما بات يعرف ببنغلاديش. استحضرت الهند بالتحديد – رغم أنها كانت تنادي بالعلمانية والاشتراكية – وقائع المجازر ضد الأقلية الهندوسية.
ولليوم لا يزال هناك 13 مليون هندوسي في بنغلاديش، ساءت أحوالهم بعد سقوط نظام الشيخة حسينة (في الصيف الماضي). هناك أيضاً قرابة 5 ملايين هندوسي في باكستان. يعانون ما يعاني مسلمو الهند، وأكثر.
تعديلات قانون الجنسية الهندية عام 2019 وضعت بغرض الإفساح بالمجال لهؤلاء – وللسيخ – لنيل الجنسية – ما أشعل الاحتجاج لدى المسلمين لأنها تعديلات تمييزية. هذا في بلد يواجه مشكلة تدفق لاجئين من بنغلاديش نحو ولاياته الشرقية الشمالية.
الأحجام الديموغرافية، المدقق فيها كما المتخيلة والمضخمة، تضغط بقوة على شعوب شبه القارة. يبقى أن المعادلة المزمنة أن «دولة المسلمين» قسمتهم وأضعفتهم أكثر فأكثر، ووحدت الهندوس، مرة تحت راية القومية العلمانية، ومرة تحت راية القومية الدينية، ولو أنها وحدة تسبح بتناقضاتها، هي أيضاً.

كاتب وصحافي لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب