هل يُفسد المال الثورة؟

هل يُفسد المال الثورة؟
الحقيقة أن الأموال التي دخلت إلى منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها هائلة جدًا، وليس سرًّا أن الكثير منها سُرق ونُهب، وأفرز أغنياء ومليونيرات من قيادات منظمة التحرير، ممن سمسروا على صفقات السلاح أو المساعدات الإنسانية أو المقاولات بشتى أشكالها…
دائمًا كانت هناك علاقة وطيدة بين المال والسياسة، بإمكان المال أن يدعم ويساعد في نمو تنظيم أو جمعية أو حزب وثورة، وبإمكانه أيضًا أن يكون سببًا في تخريبها وإفسادها. ويبقى في النهاية مصدر هذا المال، وكيف جرى التصرّف به، وهل هناك رقابة عليه أم لا.
منذ انطلاقتها، كانت الثورة الفلسطينية بحاجة إلى المال، مثل أي ثورة أخرى في العالم، كي تموّل نشاطها في مواجهة احتلال مدعوم بسخاء هائل بالمال والسلاح والرجال، حتى يومنا هذا.
الصراع قديم بين الأيدي النظيفة التي عملت بإخلاص لتحقيق الهدف، وبين الأيدي الملوّثة التي سعت إلى نفخ حساباتها وجمع المال على حساب الثورة.
منذ عقود، كتب كثيرون عن الفساد وحذّروا منه. كان الفساد أحد موضوعات رسومات ناجي العلي الأساسية، للحث على محاربته والسخرية من أولئك الذين انتفخت كروشهم ومؤخراتهم على حساب الثورة وفقرائها. كذلك برز دور المسؤول الفاسد في قصص غسان كنفاني في وقت مبكر، وفي قصة القميص المسروق التي كتبها عام ١٩٥٧، وهي من أوائل قصصه، يحكي عن الموظف أبي سمير الذي يتّفق مع موظف أميركي على سرقة الطحين المخصص للاجئين، وكان هذا سببًا في تأخر توزيع الطحين على اللاجئين الذين ينتظرونه بفارغ الصبر، وخصوصًا أن أكثرهم كان عاطلًا عن العمل.
كان أبو سمير يبيع الطحين المسروق مع الأميركي ويتقاسمان أرباحه. تنتهي القصة بأن يرفع اللاجئ المجرفة التي كان يحفر بها قناة حول خيمته لتصريف مياه الأمطار، ويهوي بها على رأس الموظف الفاسد أبي سمير.
كذلك في روايته رجال في الشمس، نرى أبا الخيزران الذي أُصيب عام ١٩٤٨ بشظية أفقدته رجولته، ولم يعد يهمه سوى الربح وتكديس المال. هذا نموذج أيضًا لمن ضحوا في بداية حياتهم، ولكنهم انقلبوا إلى سماسرة وانتهازيين.
في برنامج الرأي الحر على قناة الحوار، الذي يقدّمه الصحفي التونسي البريطاني صالح الأزرق، المشهود له بغيرته القومية، يستنتج أن الخليج العربي كان يمنح منظمة التحرير الفلسطينية المال بسخاء بقصد إغراقها بالمال ومن ثم إفسادها، ويقول: “لقد تحولت السلطة إلى سلطة بزنس وسمسرة ومال ومنافع، وآخر همّها تحرير فلسطين، وأخشى على ما تبقى من حركات شريفة من المال”.
لا الثورات ولا الدول ولا أشباه الدول، ولا أي سلطة، يمكن لها أن تتحرك من غير تمويل. ونحن عندما ننظر إلى الحركة الصهيونية والأموال التي تدفقت عليها، ندرك أهمية المال. ولو أن دول الخليج والعرب عمومًا لم يقدّموا المال لمنظمة التحرير الفلسطينية، لاتّهمناها بالبخل والخيانة والتخلي عن قضية الفلسطينيين تحت ضغوط أميركية وغيرها. المال مطلوب، وتبقى المسؤولية على من يستلم هذا المال وكيف يديره ويتصرف به. ولا ذنب للمتبرّع، مهما كانت نواياه!
الحقيقة أن الأموال التي دخلت إلى منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها هائلة جدًا، وأفرزت أغنياء ومليونيرات ممن سمسروا على صفقات السلاح أو المساعدات الإنسانية أو المقاولات بشتى أشكالها. ونشأ نتيجة لهذا صراعات داخلية على من يتحكم بمراكز المال وتوزيعه.
في النهاية، سيطرت فئة على السلطة ومؤسساتها، تعطي وتمنع، وتهدد أي موظف معارض لسياستها بلقمة عيشه، من خلال طرده أو إحالته إلى التقاعد. ولا حماية لمعارض جهر بما يرى ويعرف عن الفساد.
لا ذنب لمن قدّموا المال لمنظمة التحرير، لأنه قُدِّم بناءً على قرارات اتُّخذت في جامعة الدول العربية بدعم نضال الشعب الفلسطيني.
الموضوع نفسه يتعلّق بحركة المقاومة الإسلامية، فهنالك من مدّها بالمال الوافر، وليست مسؤوليته كيف صُرف هذا المال، بل مسؤولية الحركة وجهاز الرقابة فيها وقدرته على المحاسبة.
في إسرائيل يوجد فساد كبير، ولكن لا ننكر وجود آلية قانونية ما زالت قادرة على محاسبة المسؤولين، والدليل هو محاكمة نتنياهو ووزراء وموظفين من حوله، حول هدايا تلقاها، وملذّات مارسها، وصفقات وقّع عليها.
المال يخرّب عندما يقع بأيدٍ غير أمينة، وليس فقط في حركات التحرر الوطني، بل وكذلك في المؤسسات والجمعيات بمختلف أسمائها وأهدافها، وهذا يتعلّق بالرقابة وآلية تنفيذها بصدق وحقيقة.
إحدى الوسائل لمحاربة حركة المقاومة في قطاع غزة، التي بثّها الاحتلال بمشاركة إعلامٍ عربيٍ متصهين وحاقد على الحركات الإسلامية والمقاومة، هي أن قادة حركة حماس يعيشون في فنادق خمسة نجوم ويرسلون أبناءهم إلى منتجعات لا يدخلها سوى الأغنياء. إلا أن الواقع أظهر الحقيقة: أين عاش هؤلاء مع عائلاتهم، وكيف، وأين كانت نهاياتهم.
لا ذنب لمن قدّم المال والدعم لمنظمة التحرير الفلسطينية أو لحركة المقاومة الإسلامية، أو للشعب الفلسطيني عمومًا. لا ذنب له كيف صُرفت هذه الأموال، بل هي مسؤولية من تلقّاها، ومن يعتبرون أنفسهم قادة لمسيرة تحرر لشعب ضحى بخيرة أبنائه ودفع أبهظ الأثمان لحرية يستحق أن ينالها، رغم الفساد والمُفسدين.