كتب

معـاداة السـاميـة* بقلم الدكتور أحمد قايد الصايدي

بقلم الدكتور أحمد قايد الصايدي -المنبر الثقافي العربي والدولي -

معـاداة السـاميـة*
بقلم الدكتور أحمد قايد الصايدي-المنبر الثقافي العربي والدولي –
هذا المقال نعيد نشره اليوم، ونحن نشاهد فضائع الصهاينة في فلسطين المحتلة، ونسمع قادتهم وشركاءهم يرددون دون كلل، ودون حياء، عبارتهم الممجوجة (معاداة السامية)، يلوحون بها في وجه كل ذي ضمير حي في العالم، يتجرأ على التعبير عن استنكاره إرهابهم وجرائمهم البشعة غير المسبوقة في التاريخ.
د. أحمد قايد الصايدي
يتملكني الذهول أمام حجم التضليل، المغلف بمصطلحات زائفة الشكل والمعنى، مشبوهة الأهداف. وهو تضليل أصبح ناموساً وديدناً، في عالم ترسم معالمه الصهيونية العالمية، المتحكمة باقتصاده وإعلامه وحكوماته وسياسييه وسياساته، مستقوية بالصهاينة الجدد، الذين يمسكون بمقاليد أعتى إمبراطورية عرفها التاريخ البشري (الولايات المتحدة الأمريكية). كما تتملكني الحيرة أمام سذاجة المتلقين، الذين بلغت أذهانهم، بحكم التكرار الإعلامي، حد التبلد وماتت فيها حاسة النقد والتمييز. ومن هذه المصطلحات الزائفة المضللة، التي تروج لها وسائل الإعلام الصهيونية والمتصهينة، مصطلح (معاداة السامية)، وهو مصطلح يحمل من التزوير التاريخي ومن سوء الاستخدام السياسي ومن الإرهاب المعنوي والقمع الفكري، ما يجعل المرء مذهولاً أمام ما يتمتع به من قبول في العالم ومن سطوة ونفوذ على العقول وعلى السياسات، رغم وضوح زيفه وبطلانه وخطورة أهدافه. فما هي السامية، وما معنى معاداة السامية؟
جميعنا، أو على الأقل المتخصصون منا، يعرفون أن (السامية) هي إحدى اللغات القديمة وتفرعاتها، وأن (الساميون) هم الشعوب الناطقة بها، المنتمية افتراضاً إلى سام بن نوح، الذي أخذت منه اسمها، وأهم هذه الشعوب هي: العرب والأكاديون والآشوريون والكنعانيون والآراميون الذين ينتمي إليهم بنو إسرائيل. وأقول الشعوب المنتمية افتراضاً إلى سام بن نوح، لأن تصنيف البشر على أساس الانتماء إلى هذا الجد أو ذاك من أبناء نوح عليه السلام، هو تصنيف لم يثبت العلم صحته.
ووفقاً لهذا التصنيف الافتراضي فإن العرب، مثلهم مثل الإسرائيليين، ينتمون إلى سام بن نوح. وعليه فإن مصطلح (معاداة السامية) لابد أن يُطلق على المواقف والأفكار والاتجاهات المعادية للساميين جميعهم، وعلى رأسهم العرب، الأكثر عدداً والأوسع امتداداً وانتشاراً، من كل الشعوب السامية، والأكثر تضرراً في هذا العصر من سياسات الدول الكبرى، وعلى رأسها أدعياء حماية السامية. أما قصر المصطلح على الإسرائيليين، فهو قصر مغرض، يجعله في حالة تناقض صارخ بين معنى اللفظ وبين توظيفه السياسي.
لقد أصبح هذا المصطلح سيفاً مصلتاً على رقاب كل مفكري وسياسيي العالم. فلا أحد يجرؤ، مثلاً، على مجرد التساؤل حول مدى دقة الأرقام التي تروج لها الحركة الصهيونية، عن عدد الضحايا اليهود في المانيا النازية. فالمتحكمون في أوربا وأمريكا ينسون عندها حرية الرأي ويكشرون عن أنيابهم، وقد يحاكمون ويدينون أي مفكر أو سياسي، مهما علت مكانته، فيما يشبه الإرهاب الفكري، بل هو الإرهاب الفكري عينه. إذ تختفي الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وتنبعث روح محاكم التفتيش الأوربية، سيئة السمعة، من قبورها١.
أما حينما يسيء كاتب أو صحفي أو سياسي أو رجل دين بارز إلى الرسول العربي مثلاً، وهو، أي الرسول العربي، ساميٌّ، وفق الفرضية التاريخية الآنفة الذكر، بل إن ساميته، إذا ما سلمنا بهذه الفرضية، تصبح أكثر وثوقاً من سامية من يُنسبون حقاً أو باطلاً إلى بني إسرائيل، عندما يساء إلى الرسول العربي، فإن ذلك يدخل في دائرة حرية الرأي وحرية التعبير، في بلدان ديمقراطية، لا يحق لحكوماتها، كما يقولون، أن تتدخل لتلجم سفهاءها، ممن يحقرون معتقدات الآخرين ورموزهم الدينية، ولو على سبيل مراعاة مشاعر أكثر من مليارين من البشر المسلمين، المنتشرين على سطح الكرة الأرضية. هل شهدت الإنسانية، عبر تاريخها الطويل، نفاقاً أحط من هذا النفاق، وزيفاً أبشع من هذا الزيف وتحاملاً وعداءً تجاه البشر الآخرين ومعتقداتهم، أشد من هذا التحامل وهذا العداء؟
لقد اضطُهد اليهود في أوربا الحديثة، كما لم يُضطهدوا في تاريخهم الطويل. وبلغ اضطهادهم ذروته في عهد ألمانيا النازية. ولا شك أن ذلك الاضطهاد يؤلمنا ويجرح مشاعرنا، لا بصفتنا ساميين، فهذا أمر لا قيمة له، إنسانياً وتاريخياً، بل بصفتنا بشراً، يجعلنا تاريخنا وإرثنا الحضاري وثقافتنا الممتدة وتعاليم ديننا، نشعر بما يشعر به غيرنا من آلام، ونتعاطف، بتلقائية ودونما تكلف، مع الآخرين في معاناتهم ومآسيهم. ويزيد من رهافة شعورنا وصدق تعاطفنا مع الآخرين ما نعانيه يومياً على يد الكيان الصهيوني المحتل في فلسطين، المنتسب إلى السامية، وعلى يد الإمبراطورية الأمريكية وحلفائها، أدعياء حماية السامية.
ورغم اتخاذ الكيان الصهيوني من عذابات اليهود على أيدي الأوربيين ذريعة ومبرراً أخلاقياً لممارسة وحشيته ضد العرب، ولاسيما في فلسطين ولبنان، ورغم تحميل الأوربيين تبعات جرائمهم بحق اليهود شعباً آخر، لا علاقة له بجرائمهم ولم يشاركهم في ممارساتهم اللا إنسانية، وهو الشعب العربي، فإن هذا لم يُمِت فينا مشاعرنا الإنسانية وتعاطفنا مع الآخرين في آلامهم ومعاناتهم.
ولكن تعاطفنا مع اليهود، الذين عانوا من الأوربيين بعض ما نعانيه الآن من الكيان الصهيوني، الذي يدعي تمثيلهم، ومن حماته الأمريكيين والأوربيين، لا يمكن أن يعمينا عن رؤية الحقيقة التاريخية، وهي أن اضطهاد اليهود في أوربا المعاصرة لا يرجع إلى أسباب دينية أو عرقية، كما يروجون، بل إلى أسباب ذات علاقة بنشاطهم الاقتصادي المؤثر، الذي اصطدم بالاشتراكية الوطنية (Nationalsozialismus)، المعروفة اختصاراً بالنازية، وذات صلة بحياتهم الاجتماعية، ذات الطبيعة الانعزالية الخاصة، التي عُرفوا بها في كل المجتمعات، التي عاشوا بين ظهرانيها، وبعدائهم المضمر للمجتمعات التي تحتضنهم.
فهل يمكن أن نرى يوماً أوربا (حامية الإنسانية!!) وأمريكا (حامية الديمقراطية!!)، تلتفتان إلينا، باعتبار أننا ساميون، نعاني على أيديهما وعلى يدي صنيعتهما، الكيان الصهيوني المتوحش، هولوكوست أشد ضراوة وأطول امتداداً زمنياً مما عاناه اليهود في أوربا، فيُقتَّل أطفالنا ونساؤنا وتُدمَّر مساكننا وتُجرَّف حقولنا وتُغتصب أرضنا وتُحقَّر مقدساتنا؟ وهل يمكن أن يفيق الضمير الإنساني، فيرى عذابات العرب، على أيدي دعاة الإنسانية والحضارة والديمقراطية الحديثة، تحت ذريعة حماية الكيان الصهيوني المصطنع، وسكانه الذين جلبوا من أصقاع الأرض، ومن شتى الأجناس والأعراق وصُنع منهم شعب واحد ووُضع لهم تاريخ واحد، رغم أنف التاريخ وحقائقه، ومُكّنوا من اغتصاب أرض ليست أرضهم ومن تشريد سكانها الشرعيين؟
كل ذلك حدث ويحدث رغم أننا لسنا المسؤولين عن عذابات يهود أوربا ولم نكن سبباً في الهولوكوست، الذي صنعته الحضارة الأوربية بهم، بل تم ذلك على أيدي هؤلاء الحماة الغيورين. أما نحن فيعرف اليهود كافة أن حضارتنا العربية الإسلامية كانت أكثر رفقاً بهم وحنواً عليهم، ويعرفون أنهم كانوا موضع تدليل كثير من الحكام العرب المسلمين وحمايتهم، في كل الحواضر العربية الإسلامية، من دمشق وبغداد وحتى الأندلس، وأنهم كانوا يعيشون في كنف الدولة الإسلامية بسلام، لم يكن متوفراً لكثيرين من المواطنين المسلمين، وأن ما تفعله اليوم الحركة الصهيونية في فلسطين وفي محيطها العربي، لا علاقة له بالتاريخ الحقيقي ولا بالتاريخ الزائف، بل هو جزء من صراع المصالح في العالم، وهو صراع تندرج في سياقه العام محاولة الضمير الأوربي المعذب، إن كان هناك ثمة ضمير، محاولته تطهير نفسه والتحلل من ثقل خطاياه وآثامه وجرائمه، التي اقترفها بحق اليهود (الساميين)، وذلك بجعل الشعب العربي (السامي) يعاقب نيابة عن الأوربيين على تلك الخطايا والآثام والجرائم، التي لم يكن من جناتها ولم تكن له علاقة بها. وهم يعرفون ذلك، والمنصفون منهم لا ينكرونه.
هكذا يمارس الكيان الصهيوني عملياً معاداة السامية، بالتحالف مع حماة السامية الأدعياء. هؤلاء الحماة، الذين لو كانوا صادقين في موقفهم من الساميين، لشملتنا حمايتهم ولما وقفوا عائقاً أمام تحقيق وحدتنا العربية وإنجاز مشروعنا النهضوي، ولما شنوا الحروب علينا ونهبوا ثرواتنا ومزقوا شعبنا وجندوا حكوماتنا وبعض نخبنا في خدمتهم، ونشروا الفوضى في أرجاء وطننا العربي وبثوا الفرقة بين أبنائه٢.
هذا الواقع الماثل أمامنا يؤكد بأن مصطلح (معاداة السامية) في حقيقته مجرد أداة شيطانية، تستخدمها الحركة الصهيونية العالمية والقوى الكبرى المتحالفة معها، لتكميم الأفواه وقمع كل مظاهر المقاومة، الفكرية والسياسية، التي وعت حقيقة هذا المصطلح وأدركت خطورة الأهداف المتخفية وراءه.
______________
١. وهذا ما تؤكده اليوم، في عام 2025م، عملية مطاردة الطلاب في الجامعات الأمريكية، الذين عبروا عن استنكارهم للإبادة الجماعية في غزة، وترحيلهم من الولايات المتحدة الأمريكية، واضطهاد المتعاطفين مع الحق الفلسطيني، حتى من اليهود الأمريكيين أنفسهم.
٢. كل هذا لحماية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين والتمكين له، بإضعاف وتمزيق محيطه العربي كله.
(*) هذا المقال نشر في صحيفة (الموقف العربي) المصرية، في نوفمبر 2006م، ويعاد نشره لاهميته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب