ذكرى النكبة.. حرب مفتوحة على ذاكرتها

ذكرى النكبة.. حرب مفتوحة على ذاكرتها
“علي حبيب الله”
حرب الإبادة على غزة هي فعل استهدف وما زال يستهدف غزة كمكان وحيّز، خلفهما فعل النكبة عام 48، حين تحوّلت غزة من مدينة محاطة بريفها مثل أي مدينة لها ريفها، إلى قطاع منزوع من أطرافه الجغرافية ومكتظ باللاجئين…
لم يعد ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يشبه ما بعده، ليس لأنّ ذلك التاريخ يعني حربًا إبادية على غزة لا تزال تدور رحاها طَحْنًا بلحم أبناء وبنات القطاع فحسب، إنما لأنها حربٌ مفتوحة على الفلسطينيين عمومًا أينما كانوا، وعلى قضيتهم بمضامينها السياسية ورموزها التاريخية والثقافية، بما فيها النكبة وذاكرتها التي لن تتوانى الدولة العبرية عن محوها عبر وسائل مختلفة، أمنية منها وقانونية، وحتى تحريضية، كما حصل مؤخرًا ضد مسيرة العودة السنوية، مما دفع إلى إلغائها في الأخير.
إذا ما عدنا إلى نكبة عام 1948، بوصفها حدثًا، وحدثًا حيًّا في استمراريته وسيرورته، فإنّ أكثر ما يعبّر عن أصل ذلك الحدث هو “اللجوء”، أو لنقل إنّ اللجوء هو هوية بذاتها تُحيل إلى النكبة وإلى فلسطين في سطر تعريفها الأول. ولما جرى في العقود الأخيرة تهميش اللجوء واللاجئين، على اختلاف جغرافيتهما، من دورهما السياسي، ضمن نهج ممنهج، حيث لم يعد للمخيم الفلسطيني ولاجئه أيّ دور فاعل سياسيًا على الأقل، فإننا ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أمام سياسة أكثر وضوحًا باتجاه محو حيز اللجوء ذاته، كمكان وفضاء، بما يتجاوز سياسة التهميش ونزع صفة السياسي عن اللاجئ ومخيمات اللاجئين.
إنّ حرب الإبادة على غزة هي فعل استهدف وما زال يستهدف غزة كمكان وحيّز، خلفهما فعل النكبة عام 48، حين تحوّلت غزة من مدينة محاطة بريفها مثل أي مدينة لها ريفها، إلى قطاع منزوع من أطرافه الجغرافية ومكتظ باللاجئين إلى حد غدت فيه غزة أشبه بمخيم لجوء كبير، ومحاصَر في العقدين الأخيرين. وعليه، يشنّ جيش الاحتلال منذ عام ونصف العام حربًا على غزة بمستوى من الوحشية التي تقصد المكان لا السكان فقط، في محاولة تهدف الحرب منها إلى محو ذلك المكان بوصفه حيز لجوء في أصل تشكيله وتشكّله منذ عام النكبة.
وإذا ما نظرنا إلى الجاري منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في شمال الضفة الغربية، وتحديدًا في ما صار يُعرف بالحرب على المخيمات فيه، فإنّه يصبّ في السياق نفسه، إذ لم تعد سياسة الاحتلال تقتصر على تهميش المخيم ونزع السياسي عنه، ولا استهداف كل فعل مناهض للاحتلال قد يتبلور فيه، إنما الحرب غدت أيضًا تطاول المخيم نفسه كحيّز بات يستوجب محوه بالنسبة للاحتلال، عبر سياسة التركيم والتجريف واقتلاع من فيه إلى خارجه وبلا رجعة، فنحن أمام حرب على المخيمات خلّفت حتى اللحظة عشرات آلاف النازحين من لاجئي مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس والفارعة في طوباس.
وليس من فراغ أن استهداف المخيمات جارٍ بالتوازي مع سياسة استهداف كل مؤسسة حاضنة أو راعية للمخيم بوصفه هوية لجوء، مثل الأونروا “وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” في الضفة الغربية وكذلك في مدينة القدس، عبر وقف تمويلها أولًا كخطوة أولى اتخذت منذ سنوات، ما دفعها إلى وقف خدماتها، ومن ثم حظر نشاطها وإغلاق مكاتبها وإفراغ مبانيها. بالتالي، هي حرب صارت تطاول المخيم بغرض محوه كحيّز مُبلور لهوية اللجوء وحاضن لذاكرته، مما بات يستلزم بالنسبة للاحتلال التخلص من الحاضنة، ليس بمفهومها الاجتماعي، إنما الجغرافي كذلك.
كما تنسحب الحرب المفتوحة على المُنجز الوطني الذي أُنجز في الداخل الفلسطيني على مدار عقود، لناحية الحقوق السياسية والثقافية الوطنية لدى العرب في الداخل. ففي السنوات الأخيرة، تفاقم نهج المحاصرة السياسية والملاحقة الأمنية، وفضلًا عن حملات الاعتقال السياسي، لوحقت كذلك مظاهر التعبير عن الهوية والانتماء الوطنيين، منها مثلًا قضية رفع العلم الفلسطيني أو حتى الشعارات الوطنية التي باتت محل سؤال تحت طائل قوانين حكومة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير. ومؤخرًا، وضعت شرطة بن غفير كل ما يمكن ويُعيق إقامة مسيرة العودة السنوية إلى قرية كفر سبت، حيث كانت مقررة لهذا العام في ذكرى النكبة، ما دفع إلى العدول عنها.
ومع أن مسيرة العودة رمزية في طابعها وجوهرها، إلا أنّها على قدر عالٍ من الأهمية لناحية دورها في تشكيل الذاكرة والوعي الجمعيين لدى العرب في الداخل، فالمسيرة، تجاوزًا لرمزية العودة فيها، تتضمن فعلًا متصلًا بممارسة الصِلة مع المكان، أي الحضور الفعلي – الجماعي في الحيّز ولو ليوم واحد في السنة، بما يُعيد وعي الأجيال بذات السؤال: “ما الذي حدث عام 1948؟”
بالتالي، الدفع إلى إلغاء مسيرة العودة سابقة فيها قطع، ليس مع قرية مهجّرة ما في موقعها فقط، بقدر ما هي محاولة للقطع باتجاه القطيعة مع الذاكرة، التي تُعدّ المسيرة السنوية للقرى المهجّرة إحدى روافدها الفعلية وليس الرمزية فقط. وهذا بدوره، بات يُنذر بالمستقبل أكثر مما هو متصل بأسئلة الماضي، لناحية السياسات والممارسات التي يُعِدّها اليمين الصهيوني الفاشي في طريق العرب، خصوصًا فيما يتصل بحقهم في ذاكرتهم التاريخية والوطنية، بوصفه حقًّا مستمدًّا من حقوقهم في بلادهم.
كانت نكبة عام 48 ممارسة اقتلاع في جوهرها، تَقسِمُ على تعريفات متعددة: تهجير وتطهير عرقي، محو وإحلال، وظلت هذه الممارسات تطلّ برأسها كلما أمكن لها بين حينٍ وآخر، إلى أن باتت تتخذ مؤخرًا شكل النزوع نحو اقتلاع واجتثاث كل ما هو متصل بحكاية الاقتلاع نفسها، عبر النيل من المكان والذاكرة عنه معًا.