هزيمة أميركا في اليمن: عن كتابة تاريخ الانتصار

هزيمة أميركا في اليمن: عن كتابة تاريخ الانتصار
ليس من السهل القول جزماً إن هناك إسرافاً في الاستحضار التاريخي للنصر الفييتنامي على أميركا. ففي الأخير، لهذا النصر ميزة الأسبقية، في كونه أوّل فرض للانكسار على الإمبراطورية الأميركية، وفي أوج صعودها، فقد كان فاتحة الممكنات والانتصار المستحيل. ولذلك، أدّى إلى تغيير كبير في الظروف التاريخية للنضال ضد الاستعمار حول العالم. كما أنّ صلابة التفاوض الفييتنامي وعدم المساومة، لا في الشكل ولا المضمون، وفي أدق التفاصيل، هما أيضاً من عوامل تميّز هذا الانتصار التاريخي.
إلا أنه من السهل الجزم بأن الإمبراطورية الأميركية، والغرب عموماً، قد تعلّموا درساً؛ وهو أنه وإن كانوا سيتعرّضون لهزائم، فعليهم الحفاظ على اليد العليا في معركة الوعي الكونية بين المستعمِر والمستعمَر، بين السيّد والعبد، وذلك عبر منع تحوّل هذه الهزائم إلى تجارب ملهمة لغيرها، أو معيار سياسي، سواء كان ذلك المنع عبر الدعاية والبروباغندا السياسية والتشويه، أو العقوبات وتدفيع الثمن كما كوبا وغزة، أو الانتصار على المدى البعيد كما العدوان الثلاثي على مصر، والجهد لتحويل النصر إلى هزيمة بأثر رجعي.
لذلك، ومهما حدثت انتصارات من الجزائر وأفغانستان ولبنان واليمن وتحرير غزة الأوّل، تحرص الإمبريالية وأتباعها -خصوصاً في حالتنا العربية- على تكبيل النصر ومحاصرته. فحتى اليوم، يحاول الانهزاميون العرب توهين تجربتَي فييتنام والجزائر، ووضع مسافة بينهما وبين «طوفان الأقصى»، لا كدراسة تاريخية مقارنة، بل كموقف سياسي مضادّ لعملية التحرّر. وهو موقف ليس بجديد، إذ كان له منتسبوه خلال أصعب مراحل تجارب الجزائر وفييتنام ذاتها.
بناءً على ذلك، إنّ إحدى أهم ساحات صراع السرديّات والوعي، هي عملية كتابتنا للتاريخ بعد صنعه وتحصين أي انتصار من الهجمة التي تتبعه. أي تأريخ علمي وإيماني لهذا الانتصار، حتى يأخذ أثره التاريخي الملهم الذي يستحق. ومنذ اليوم، وبعد تجربة انتصار وصمود معركة اليمن ضد العدوان الأميركي 2024-2025، فإن استحضار فييتنام سيكون إسرافاً وقفزاً تاريخياً وتبخيساً للحاضر، وتنازلاً عن العملية التاريخية في إنتاج وفهم عملية تحرّرنا من هيمنة الإمبراطورية الأميركية.
وإنّ على نصّ خبر «إيقاف إطلاق النار بين صنعاء وواشنطن»، بما فيه من تناظر وندّية، أن تكون إحدى المحطات الكبرى في تحوّلات جدليّة السيّد والعبد على مستوى كوني ضد الإمبراطورية الأميركية، وأن ينعكس على الوعي السياسي لكل من اتخذها عدوّاً وهو واقعٌ في حيز هيمنتها.
الهزيمة الساحقة للإمبراطورية
لا يخبرنا التاريخ عن نهاية إمبراطورية عبر هزيمة ساحقة، إلا أنه يخبرنا، وبوضوح، عن سيرورات أفول الإمبراطوريات وتدهورها. بشكل عام وواسع، اتخذت عملية أفول الإمبراطوريات سيرورة تبدأ من ضعف في أدواتها للتمدّد وممارسة الهيمنة في فضائها الإمبراطوري، وذلك نتيجة هزائم في معارك متتالية. قد تكون تلك الهزائم ما يسبّب بروز وهن وتكلّس وتناقض داخلي في مركزها، أو بالاتجاه المعاكس، تكون تلك الهزائم الموضعية هي سبب شعلة التناقض في مركزها، أو تداخل الاثنين معاً.
يشكّل الانتصار في معركة اليمن 2025 على الإمبراطورية الأميركية لحظة مفصلية جديدة لمسار التحرّر العربي والإنساني
المسألة أنّ هنالك علاقة سببية بين أفول الإمبراطوريات وتعرّضها للهزائم في معارك قد يشار إليها بالصغيرة نسبة إلى الحجم الكبير للقوة الإمبراطورية، إلا أن لهذه المعارك «أثر الفراشة»، أي إنها قد تبدو صغيرة إلا أنها قد تؤدّي إلى نتائج كبيرة على المدى البعيد. كانت لمعركة «ديان بيان فو» عام 1954 هذا الأثر على الإمبراطورية الفرنسية والتبعات التي أنتجتها على إلهام حرب تحرير الجزائر، وعلى الوعي بأن هزيمة المستعمِر ممكنة. كشاهد، بثّت الإذاعة العراقية عام 1960، وفي أوج الدموية الإبادية الفرنسية، أبياتاً شعرية:
«باريس ما اصطبغ الثرى عبثاً ولا امتلأت المقابر
أوَتذكرين (ديان بيان فو)؟ فهي معركة المصائر
بدأت بأرض الصين وانتقلت إلى أرض الجزائر».
الأمر ذاته مع ما يطلقه التاريخ الاستعماري البريطاني على نفسه بـ«لحظة السويس»، وهذه المرّة بضربة حرجة سدّدها العرب بأنفسهم عام 1956 من على شواطئ بور سعيد، والتي شكّلت لحظة حرجة في مسار ضمور الإمبراطورية البريطانية.
في تاريخنا نحن، فإنه من التعسّف الكبير الإشارة إلى «طوفان الأقصى» ومعركة اليمن باللحظة الحرجة التي تؤدّي إلى انعطافة كبرى ومباشرة في سيرورة أميركا.
فلهذه الإمبراطورية، قبل خصوصية نمطها التاريخي لتجسيد مفهوم الإمبراطورية في ظلّ الرأسمالية والعولمة، فائض قوّة تاريخي كبير جدّاً يمكّنها من امتصاص الضربات والهزائم، من فييتنام وصولاً إلى الهزيمة في أفغانستان ونسبياً في العراق. إلا أن «الطوفان» قد سدّد ضربة ليست بالسهلة يجب المراكمة عليها على أحد مراكز قوة الفضاء الإمبراطوري في المنطقة العربية والعالم: «إسرائيل والمشروع الصهيوني»، وإدخاله في تأزّم حقيقي.
أمّا معركة اليمن، وفي مواجهتها المباشرة مع أميركا، فلها من الأثر والبصمة التاريخية ما يؤدّي إلى نقلة نوعية وعتبة جديدة وعلى عدّة مستويات: أوّلاً، على المستوى الثقافي والوعي وجبهته، وهو ما على كل الفاعلين السياسيين وفي الحقول المعرفية والثقافية تحصينه. وثانياً، في تحصين ركن ومساحة جغرافية وسياسية هي الأخيرة حالياً لنا كعرب بعد السقوط السياسي للقاهرة ومن ثم بغداد ودمشق، وبروز دول الخليج الفاعل التابع المرتبط بوجود الإمبراطورية نشأة وسياسة واقتصاداً. إنّ هذه المساحة هي الجيب الوحيد الحالي لمسار تاريخي خارج الفضاء الإمبراطوري.
يرتبط المستوى الثالث بالعامل المادّي للسلاح. ما يميّز التاريخ هو تعدّد قراءاته، بمعنى ميل كل خبراء في حقل اجتماعي أو علمي لقراءة وسرد التاريخ من زاوية ومسار محدّد. فعالم الاجتماع سيقرأ لنا التاريخ لآخر عدّة قرون عبر التحوّل في الهويّات والبنى الفكرية والاجتماعية، وخبير السلاح سيقرأه من زاوية التطوّر في الأسلحة والتكنولوجيا… كثيراً ما تقع هذه القراءات في إفراط في تحديد العامل الرئيسي لتغيّر التاريخ إلا أنها في النهاية مصفوفة متشابكة.
إنما بالنسبة إلى اليمن، فلا يمكن إغفال العامل التاريخي للسلاح في عملية استهداف حاملات الطائرات الأميركية، وهي، كسلاح بالمعنى الواسع، تشكّل أبرز أدوات الإمبراطورية الأميركية للحفاظ على هيمنتها على فضائها الإمبراطوري على مستوى العالم كلّه. ولأوّل مرّة، وفي سابقة، تستنفر مجموعات حاملات الطائرات ضد بقعة جغرافية محددة، ومن ثم تفشل في فرض سيطرتها عليها، ويتم استهدافها وتحييدها، في إنجاز لعله الأكبر في حجمه وشكله لمعركة ضد أيّ من الإمبراطوريات البشرية.
يضاف إلى ذلك، السلاح المحلي الصنع غير المعروف الاسم، في الدفاع الجوي اليمني، والذي بدوره أسّس لسابقة أخرى، في منع الإمبراطوريات الغربية من فرض سيطرتها على الفضاء الجوي لإحدى مناطق هيمنتها. ولذلك، إنّ قراءةً لسيرورة أميركا عبر عامل السلاح تؤدّي إلى نتيجة كبيرة في فهم ضمور وهزيمة في تسيّد فضائها الإمبراطوري. وأخيراً، ولعلّه أكثر الأدوات فعالية على المدى البعيد، هو ما يشكّله البرنامج الصاروخي اليمني من نطاق متحرّر يمكّن من ممارسة ومنافسة مع الإمبراطورية في المنطقة العربية، حيث يشكّل اليد الطويلة لاستهداف مصالحها من خلال الكيانات الوظيفية العربية.
يشكّل الانتصار في معركة اليمن 2025 على الإمبراطورية الأميركية، لحظة مفصلية جديدة لمسار التحرّر العربي والإنساني. إلا أنه، وكما هو خطوة كبيرة، فإنه ينتج مسؤولية كبرى للحفاظ عليه، وتحصينه، وتوسيعه. والأهمّية هنا، بالدرجة الأولى، أن لا نكرّر أخطاء الماضي، ونعتبر منها، لكي لا يعود التاريخ -لا سمح الله- إلى الوراء مجددّاً، وكما يخبرنا الشهيد غسان كنفاني: نحن لا نتوقّع -طبعاً- أن يتركنا أعداؤنا نغيّر تاريخ المنطقة، ونزعزع مراكزهم الاستراتيجية والاستعمارية، من دون أن يبذلوا أقصى جهدهم لمنعنا من ذلك… وهكذا، فإن المعركة قاسية.
* كاتب عربي