اقتصاد

اقتصاد حرّ على أرض رخوة: الشرع لا يستلهم دروس الماضي

اقتصاد حرّ على أرض رخوة: الشرع لا يستلهم دروس الماضي

محمد الخنسا

بعد ثلاثة أيام على سقوط نظام بشار الأسد، تحدّث رئيس «غرفة تجارة دمشق» آنذاك، باسل حموي، إلى وكالة «رويترز»، عن أن النموذج الاقتصادي الجديد سيكون «نظامَ سوق حرّة قائماً على التنافسية». وأخيراً، شدّد مستشار وزير الاقتصاد، بدوره، على وجوب «بيع القطاع العام برمّته»، على اعتبار أن «تأسيس وإدارة الأعمال، هما من اختصاص المواطنين، وليس بيروقراطيّي الحكومة، هواة البزنس». وفي الاتجاه نفسه، ذهب مسؤولون آخرون، من بينهم الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، الذي اعتبر أن سوريا عانت طويلاً من «السياسات الاقتصادية الاشتراكية»، والتي سادت في عهد النظام السابق.

وفيما قد يرى البعض في التصريحات الآنفة مجرّد كلام لـ«استرضاء» المجتمع الدولي، فإن مراجعةً بسيطة لسلوك النظام الجديد، منذ لحظة وصوله إلى السلطة، تُظهر توجّهاً حاسماً نحو تبنّي الليبرالية الاقتصادية المتطرّفة. وعلى رغم أن نظام «البعث» حكم لعقود عبر نموذج الاقتصاد الموجّه القائم على تحكُّم الدولة بالإنتاج والتوزيع من خلال مؤسسات عامة، إلا أن بشار الأسد بدأ، اعتباراً من الألفية الثانية، في التوجّه نحو اقتصاد السوق المفتوحة. ونتيجة لهذا التحوّل، تراجعت مساهمة القطاع العام في الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو الثلث فقط، ما خلّف عواقب اجتماعية كارثية، يرى عدد من الخبراء أنها لعبت دوراً محورياً في إشعال انتفاضة عام 2011.

بدورها، كشفت حكومة الشرع، منذ مطلع العام الجاري، عن خطّة لإعادة هيكلة القطاع العام، تبدأ بالتخلّص من «الموظفين الوهميين»، وهو ما كان وزير المالية السابق، محمد أبازيد، أشار إليه، في كانون الثاني الماضي، حين تحدّث عن «تنظيف لوائح الرواتب» من نحو 400 ألف اسم وهمي. وفي الاتجاه نفسه، أعلن وزير التنمية الإدارية أن سوريا بحاجة حالياً إلى ما بين 550 و600 ألف موظف في القطاع العام، أي أقلّ من نصف القوّة العاملة سابقاً. كذلك، سارع النظام الجديد إلى رفع الدعم الحكومي عن الوقود، ليرتفع سعر ليتر المازوت من ألفي ليرة على السعر المدعوم، إلى نحو 10 آلاف ليرة، في آذار 2025.

وفي كانون الأول 2024، حُرم حاملو «البطاقة الذكية» – والذين كانوا يستفيدون من شراء السلع الأساسية بأسعار مدعومة – من الدعم المخصّص لرغيف الخبز. ووفق تصريحات المدير العام لـ«المؤسسة السورية للمخابز»، محمد الصيادي، فإن الجهات المختصّة تدرس حالياً زيادة سعر الخبز المدعوم أو خفض وزنه، في سياق خطّة أشمل تهدف إلى «تحرير الأسعار» تدريجيّاً.

واحتلّ تحرير التجارة سلّم أولويات النظام الجديد؛ إذ وعدت الحكومة بخفض الرسوم الجمركية على الواردات بنسبة 60%، كما سعت إلى إزالة العوائق التجارية وعوائق النقل مع كلٍّ من الأردن وتركيا. ونتيجة لذلك، سجّلت الصادرات التركية إلى شمال سوريا، في كانون الثاني وحده، 219 مليون دولار، بزيادة سنوية قدرها 35.5%. ومع نهاية شباط الماضي، قفزت الصادرات الأردنية إلى سوريا بنسبة 483%، مقارنة بالفترة نفسها من العام الفائت، في حين انخفضت الصادرات السورية إلى الأردن بنسبة 11.11%.

واستتباعاً، بدأت الحكومة تطبيق خطط إعادة تفعيل مناطق التجارة الحرة مع الدول المجاورة؛ فقد أفادت «هيئة مستثمري المناطق الحرة» الأردنية بأن عدد العقود الاستثمارية والتشغيلية الموقّعة ضمن المنطقة الحرة الأردنية – السورية المشتركة، بلغ 88 عقداً منذ إعادة افتتاحها مطلع العام الجاري. كما اعتمد النظام الجديد ما يمكن وصفه بسياسة «التقشّف النقدي»، عبر قيام المصرف المركزي بتقييد السيولة، وفرض سقوف صارمة على السحوبات، وتقليص طباعة العملة الجديدة، وهو ما ساهم في خنق الطلب الاستهلاكي، وإضعاف القوّة الشرائية لدى المواطنين.

وسعياً منه لتمويل النموذج الاقتصادي الجديد، تواصل الشرع مع شبكة واسعة من رجال الأعمال السوريين من مستثمرين وصناعيين ومديري شركات في الداخل والخارج، ومنهم من كانت تربطه علاقات بالنظام السابق. كما وعد الشرع، رجال أعمال من حول العالم، بإتاحة فرص للاستثمار في قطاعات استراتيجية من الاقتصاد السوري، قبل أن توقّع سوريا، في الأول من أيار، أول عقد استثماري كبير مع شركة عالمية، تَمثّل في اتفاق مدّته 30 عاماً مع شركة «CMA CGM» الفرنسية لتطوير مرفأ اللاذقية وتشغيله، بقيمة 230 مليون يورو.

دروس من سياسات الأسد في تبنّي السوق الحرة

يبدو أن النظام القائم لم يستخلص العِبر من تجربة الأسد في تطبيق خطط التحرير الاقتصادي خلال العقد الذي سبق اندلاع انتفاضة عام 2011. فقد وثّق الباحث محمد جمال باروت هذه المرحلة، في كتابه «العقد الأخير في تاريخ سوريا: جدلية الجمود والإصلاح»، والذي يُظهر بوضوح أن التوجّه نحو اقتصاد السوق الحرة جاء عبر موجة من التشريعات والإصلاحات، عُرفت في حينه بـ«ثورة المراسيم»، مع إقرار أكثر من 1200 قانون جديد بين عامَي 2000 و2005، هدفت إلى إدماج الاقتصاد السوري في المنظومة الاقتصادية العالمية، والاستفادة من رؤوس الأموال السورية ومن الطفرة المالية التي كانت تعيشها دول الخليج.

خطّة الشرع تأتي في ظلّ تفاقم مستويات الفقر، إذ ارتفعت من 33% قبل الحرب، إلى نحو 90% اليوم

ويشير الخبير الاقتصادي السوري، جهاد يازجي، إلى أن التحرير الاقتصادي، في مطلع الألفية، مكّن القطاع الخاص من الهيمنة على معظم القطاعات الحيوية، من مثل الزراعة، والصناعة، والبناء، وتجارة الجملة والتجزئة، والسياحة، والنقل الداخلي، وحتى الطاقة والخدمات المالية. ويُظهر كتاب باروت النتائج الفعلية لهذه السياسات؛ إذ ارتفعت مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي من 59.8% بين عامَي 2000 و2005، إلى 64.9% بين عامي 2006 و2009.

إلا أن التداعيات الاجتماعية لاعتماد النموذج الآنف الذكر كانت كارثية، مع ارتفاع نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من 11.4% (أي نحو 2.04 مليون نسمة) في عام 2004، إلى 12.3% (2.36 مليون نسمة) في عام 2007. كما سجّل التضخم ارتفاعاً حادّاً، من 10% في عام 2006 إلى 15.15% في عام 2008. وسجّلت سوق العمل، بدورها، مؤشّرات مقلقة؛ ففي الفترة الممتدة ما بين عامَي 2004 و2008، لم ينتج الاقتصاد سوى 90 ألف فرصة عمل جديدة، أي بمعدّل نمو سنوي لم يتجاوز 0.5%، في وقت كان فيه استيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل يتطلّب نمواً بنسبة تراوِح بين 3% و4% سنوياً.

تحرير اقتصادي على أسس هشّة

اللافت أن تجربة التحرير الاقتصادي الفاشلة التي قادها الأسد، تمّت في مرحلة كانت فيها البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لسوريا لا تزال مستقرة نسبيّاً. أما اليوم، فيحاول النظام الجديد تطبيق النموذج الاقتصادي نفسه على أرضية أشدّ هشاشة وفي ظروف أكثر تقلُّباً. وفي هذا الإطار، يلفت تقرير حديث صادر عن «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» (UNDP) إلى أن الحرب في سوريا تسبّبت بخسائر في الناتج المحلي الإجمالي تُقدّر بنحو 800 مليار دولار، خلال 14 عاماً. ووفقاً للتقديرات، فإنه في حال استمرّت معدّلات النمو الحالية – أي نحو 1.3% سنوياً بين عامي 2018 و2024 -، فإن الاقتصاد السوري لن يعود إلى مستويات ما قبل الحرب (عام 2010) قبل عام 2080، أي بعد نحو 55 عاماً.

كما تواجه خطّة الإدارة الجديدة عقبة كبرى تتمثّل بعدم وجود احتياطات من العملات الأجنبية، وهو شرط جوهري لعمل أيّ سوق حرة قائمة على العرض والطلب. ففي العقد الذي بدأ فيه الأسد تنفيذ خطّته الليبرالية، كانت الدولة تمتلك احتياطات من العملات الأجنبية تكفي لتغطية نحو 29 شهراً من الواردات، أو ما يعادل 65% من الكتلة النقدية، أو 90% من الناتج المحلي الإجمالي للفترة 2005 – 2007. أما اليوم، ووفق ما نقلته وكالة «رويترز»، فإن احتياطي «المركزي» من العملات الأجنبية لا يتجاوز الـ200 مليون دولار نقداً.

كذلك، فإن الاستقرار النسبي في سعر الصرف كان أحد العوامل التي شجّعت النظام السابق على انتهاج سياسة السوق المفتوحة، إذ بقيت العملة ضمن نطاق تذبذب محدود. أما اليوم، فإن سعر الصرف يتقلّب باستمرار بين 10,000 و12,000 ليرة للدولار الواحد، بعدما كان مستقرّاً لسنوات عند 14,700 قبل سقوط النظام. ويُضاف إلى ما تقدّم، أن خطّة الشرع تأتي في ظلّ تفاقم مستويات الفقر، والتي ارتفعت من 33% قبل الحرب، إلى نحو 90% اليوم، بحسب تقرير «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي».

أما الفقر المدقع، فقد ارتفع من 11% إلى 66%، ما يعني أن خفض الإنفاق العام من خلال ترك أسعار الخبز والدواء وغاز الطهو لآليات السوق، سيجعل هذه السلع خارج متناول معظم السوريين. أيضاً، تشكّل الديون العامة عبئاً إضافيّاً على الاقتصاد، بعدما بلغت ما بين 20 و23 مليار دولار، وهو رقم كبير مقارنة بناتج محلّي قدره 17.5 مليار دولار فقط عام 2023.

أما على صعيد العوامل السياسية، فنُفّذت خطّة الأسد الاقتصادية خلال فترة كانت فيها الدولة موحّدة تحت حكم مركزي قوي يسيطر على كامل الأراضي، فيما اليوم لم تَعُد سوريا قادرة على توفير بيئة مستقرّة للاستثمار في ظلّ استمرار العنف وهجمات الفصائل الإسلامية والاستهداف الطائفي للعلويين والدروز، فضلاً عن الاحتلال الإسرائيلي والتوغلات المتكرّرة في الجنوب.

المسار البديل؟

في مقابل نموذج «الحدّ الأدنى من تدخل الدولة في الاقتصاد»، يبرز مسار بديل يقوم على أن تؤدّي الدولة دوراً مركزياً في دعم الاقتصاد، على أن يُستعاض عن الاعتماد على رؤوس الأموال والسلع المستوردة بتشجيع الإنتاج الوطني. وفي هذا السياق، يرى الخبير جهاد يازجي، أن «على السلطات السورية الجديدة أن تضع في مقدّمة أولوياتها هدفاً طويل الأمد، وهو زيادة الإنتاج المحلي في القطاعات كافة، بدلاً من إضاعة الوقت في إثبات مدى ليبراليتها أمام العالم».

وبهذا، يصبح من الضروري الاستثمار في البنية التحتية، وحماية المنتجين المحليين من المنافسة الخارجية، بما يمنحهم مجالاً للنمو، إذ إن دعم الإنتاج المحلي من شأنه أن يخلق فرص عمل جديدة، ويوفّر دخلاً أكبر للمواطنين، وهو ما يُعدّ وسيلة أكثر فعالية لتعزيز القوة الشرائية مقارنة بمحاولة خفض أسعار السلع عبر إزالة الحواجز الجمركية، وهي الخطوة التي تؤدّي غالباً إلى إلحاق الأذى بالصناعات المحلية.

* (موقع «الأخبار»
الإنكليزي – بتصرف)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب