قراءة حيّة واستشرافية للمشهد: ماذا بعد رفع العقوبات عن سورية؟

قراءة حيّة واستشرافية للمشهد: ماذا بعد رفع العقوبات عن سورية؟
يعد قرار ترامب برفع العقوبات تحولًا كبيرًا في السياسة الأميركية تجاه سورية، حيث كانت العقوبات السابقة تعيق الاقتصاد السوري وتمنع الاستثمارات الأجنبية والمساعدات الإنساني…
بعد عقودٍ من العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية المفروضة على سورية، جاء إعلان الرئيس ال دونالد ترامب عن رفع العقوبات بمساعٍ سعودية حثيثة، تحولًا نوعيًا في العلاقة بين سورية والعالم الخارجي من جهة وحتى بين السوريين أنفسهم بمختلف طوائفهم و كأنها فرصة لتوحيدهم. لكن هذا الحدث، على أهميته السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، لا يُمكن فهمه دون النظر في تاريخ طويل من العزلة والعقوبات التي عايشها الشعب السوري، والتي لطالما كانت أكثر وطأة عليه من تأثيرها على بنية نظام الأسد وكياناته ورجالاته.
تاريخ طويل من العقوبات
بدأ مسلسل العقوبات في عام 1976، حين فرضت الولايات المتحدة قيودًا اقتصادية ودبلوماسية على سورية على خلفية تدخلها في لبنان. وفي عام 1979، أُدرجت سورية على قائمة الدول الراعية للإرهاب، ما أدى إلى حظر تصدير التقنيات والأجهزة الحساسة. ثم جاءت مرحلة الثمانينيات، حيث اتُّهمت دمشق بدعم هجمات فصائل فلسطينية على أهداف أوروبية، فتدهورت العلاقات مع العديد من الدول الغربية، وفرضت قيود تجارية جديدة. صحيح أن حرب الخليج عام 1990 شهدت تحسنًا طفيفًا في العلاقات نتيجة انضمام سورية إلى التحالف ضد العراق، إلا أن هذا الانفتاح لم يدم طويلًا.
مع تولي بشار الأسد السلطة، وبداية ما أطلق عليه نظام الأسد حينها “ربيع دمشق” والذي بدأ بقليل من الإصلاحات والانفتاح السياسي و الاقتصادي على الداخل و الخارج، استمرت خطة التطوير بشكل بطيء ثم عادت القبضة الأمنية الحديدية على الشارع السوري؛ و دخلت سورية في دوامة جديدة من العقوبات. أُقرّ “قانون محاسبة سورية” في عام 2003، ووسّعت واشنطن نطاق عقوباتها لتشمل قطاعات اقتصادية ومالية واسعة. وفي عام 2004، طالت العقوبات المصرف التجاري السوري، بتهم تتعلق بغسيل الأموال وتمويل جهات مشبوهة؛ بذريعة أن دمشق غير جادة في الحرب العالمية على الإرهاب. نص هذا القانون على حظر تصدير السلع الأميركية باستثناء الغذاء والدواء إلى سورية أو استثمار رؤوس أموال أميركية أو عمل الشركات ال فيها، وتجميد الأرصدة والممتلكات التابعة للحكومة السورية في الولايات المتحدة؛ بالإضافة إلى تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي بين الولايات المتحدة وسورية، وتحديد مجال سفر الدبلوماسيين السوريين في واشنطن أو نيويورك بخمسة وعشرين ميلا من مقار أعمالهم؛ وواصلت واشنطن بالنتيجة إدراج سورية على لائحة الدول التي ترعى الإرهاب إلى أن توقف دعمها لحزب الله والجماعات الأخرى، وتتخلى عن استضافة تلك المنظمات في دمشق.
ثم جاء عام 2005، ووقع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ما استتبع عقوبات أميركية وأوروبية جديدة وفق القرار الأممي 13399 الذي فرض عقوبات على متورطين محتملين في عملية اغتيال الحريري، ليصدر بعده القرار رقم 1559 الذي طالب بانسحاب القوات السورية من لبنان. وبحلول عام 2008، صدر القرار الأميركي رقم 13460 الذي نص على عقوبات ضد رجال اعمال ومسؤولين سوريين متنفذين بتهم الفساد ودعم الجماعات المسلحة في المنطقة و أبرزها حينها حزب الله ، وبدأت العقوبات تطال شخصيات مقربة من النظام، على غرار رجل الأعمال رامي مخلوف ومسؤولين أمنيين مثل علي مملوك
لكن القفزة الكبرى في مسار العقوبات وقعت بعد عام 2011 مع انطلاق الثورة السورية. ما أعقبها من قمع ممنهج وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان دفع بالمجتمع الدولي نحو توسيع العقوبات بشكل غير مسبوق، وصدرت أوامر 13572 و13573 و13582 والتي شملت تجميد الأصول، حظر النفط، ومنع الاستثمار وتقويض أي أعمال دولية وإقليمية من شأنها مساعدة نظام الأسد. اشتدت العقوبات بعد عام 2019 حينما تبنى الكونغرس قانون قيصر لحماية المدنيين، ودخل حيز التنفيذ عام 2020، ليوسّع العقوبات على الجهات الأجنبية التي تدعم النظام عسكريًّا أو اقتصاديًّا، بما يشمل مشاريع الإعمار والنفط والجيش. وقد استُوحي اسمه من المصور العسكري المنشق فريد المذهان الملقب بِـ”قيصر” الذي وثّق جرائم تعذيب وقتل داخل سجون النظام.
وعلى الرغم من مطالبات العديد من الدول برفع العقوبات على سورية وتمرير مساعدات إغاثية لا سيما في وقت الزلزال الكبير الذي ضرب الأجزاء الشمالية الغربية من البلاد عام 2023، إلا أن الولايات المتحدة بقيت متمسكة بمسار العقوبات لكونها على دراية أن نظام الأسد سيستغل هذه المساعدات في تعزيز وجوده في المنطقة وإنعاش حضوره.
بالعموم، على الصعيد الاقتصادي، تشمل العقوبات حظرًا تجاريًا وماليًا شبه كامل، يتضمن منع تصدير السلع والخدمات الأميركية (باستثناء الإنسانية)، وتجميد أصول النظام، ومنعه من الوصول إلى النظام المالي العالمي، بالإضافة إلى حظر الاستثمار الأميركي والنفط السوري. أما على المستوى الدبلوماسي، فقد تم تعليق التمثيل الدبلوماسي منذ عام 2012، ومنعت عودة سورية إلى المؤسسات الدولية، وأدرجت في برامج حظر السفر والهجرة. وفي ما يخص العقوبات الفردية، فقد طالت مئات الأفراد والكيانات، من بينهم بشار الأسد ومسؤولون كبار ورجال أعمال وشركات ومصارف، وتشمل هذه العقوبات تجميد الأصول، حظر التعامل المالي، ومنع منح التأشيرات، إلى جانب عقوبات ثانوية طالت داعمين غير سوريين من إيران وروسيا والصين. وقد أسفرت هذه العقوبات عن تأثيرات عميقة، فسياسيًا، تعاني سورية من عزلة دولية خانقة وتجميد لعلاقاتها مع معظم دول الغرب، ما دفعها إلى الاعتماد المتزايد على روسيا وإيران. أما اقتصاديًا، فقد شهدت البلاد انكماشًا تجاوز 80٪، وانهيارًا حادًا في قيمة الليرة السورية (بلغ سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية 13500 قبل إعلان رفع العقوبات) وارتفاعًا مفرطًا في معدلات التضخم، ما أدى إلى تدهور مستوى المعيشة ووقوع أكثر من 90٪ من السكان تحت خط الفقر، فضلًا عن خسائر بمليارات الدولارات جراء حظر النفط وتجميد الأصول، وصعوبات جسيمة في التحويلات المالية الخارجية.
نظرية “الثورة التي جلبت العقوبات”
لعلّ من أكثر الخطابات تضليلًا ما يُروّج له بعض فلول نظام الأسد والمواليين الخفيين له بأن العقوبات جاءت فقط نتيجة للثورة السورية عام 2011، وأن العمل الثوري والجاليات السورية في خارج البلاد كانت السبب في إنزال العقوبات على سورية. إلا أن العرض السابق للعقوبات على نظام الأسد ينفي هذه الفرضية على اعتبار أنها بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي؛ وبالتالي فقد عاش السوريون واقع العزلة منذ عقود، والثورة لم تكن إلا محطة في مسار ممتد من السياسات التي جلبت العزلة الدولية لنظام الأسد خصوصًا وللشعب السوري عمومًا ومنعه من التقدم التقني والحضاري.
طوال هذه العقود، لم تكن العقوبات أداة فعالة لكبح جماح النظام أو فرض إصلاحات داخلية. بل على العكس، التفت السلطات على العقوبات بذكاء مافيوي، ونجحت في تحميل تكلفتها للشعب، وتحويلها إلى شماعة تُبرّر بها كل فشل وفساد وقمع. التفت نظام الأسد إلى ابتزاز الدول المجاورة بملفات وهمية لتمرير صفقات مشبوهة ومعاملات اقتصادية وأمنية جلبت المزيد من العقوبات ، لا سيما قانون الكبتاغون الذي ظهر نتيجة لتجارة نظام الأسد بالكبتناغون و المخدرات عمومًا في دول المنطقة، و سلط هذا القانون كسيف على رقاب الشعب السوري وأصبح يخوفهم بهذا القانون ليروج أن الشعب السوري هو شعب مكروه من الجوار و لهذا فهم يفرضون هذه العقوبات و يساهمون في تعزيز تعليماتها التنفيذية.
وبمرور الزمن، لم تعد العقوبات تُستخدم فقط كذريعة من النظام، بل تحولت أيضًا إلى مبرر لأي تقصير أو إخفاق في أداء الدولة ومؤسساتها، حتى في الفترات التي كانت فيها الفرص ممكنة والإمكانيات متوفرة.
ماذا بعد؟
صحيح أن رفع العقوبات لن يُترجم إلى انتعاش فوري أو تعافي اقتصادي بين ليلة وضحاها؛ إلا أنه بات على الإدارة الجديدة الآن أن تُثبت قدرتها الحقيقية على المضي قدمًا بواقع افضل للبلاد، لا سيما وأن السوري أصبح اليوم في موقع يُمكنه – نظريًا – أن يطالب بخدمات، بمساءلة، بحد أدنى من الأداء الحكومي الفعّال. رفع العقوبات، بهذا المعنى، ليس فقط حدثًا اقتصاديًا أو سياسيًا، بل تحوّلًا في المنظومة الخطابية للدولة. إنه اختبار للكوادر، وللقدرات، وللأشخاص الذين تم تعيينهم لإدارة ملفات حيوية. من ليس أهلًا لهذه المسؤولية، ستفضحه المرحلة المقبلة. هذه المرحلة الجديدة قد تُشكّل أرضية حقيقية لتعزيز الشفافية والمساءلة والعمل الجاد والقانوني وتجاوز دولة الظل التي كان يعمل عليها نظام الاسد، لا سيما وأنها فرصة لاستعادة الثقة بسلطات الدولة التشريعية والتنفيذية، وسلطات المجتمع المدني والمؤسسات العامة.
فعليًا، يعد قرار ترامب برفع العقوبات تحولًا كبيرًا في السياسة الأميركية تجاه سورية، حيث كانت العقوبات السابقة تعيق الاقتصاد السوري وتمنع الاستثمارات الأجنبية والمساعدات الإنسانية. الآن، يُتوقع أن يُسهم هذا القرار في تسهيل جهود إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة من دول الخليج التي دعمت هذا التحول. الاقتصاد السوري بحاجة إلى إصلاحات هيكلية، ومؤسسات الدولة تحتاج إلى تعزيز الشفافية والمساءلة. كما أن المجتمع الدولي سيراقب عن كثب كيفية تعامل الحكومة الجديدة مع حقوق الإنسان ودمج مختلف الفئات في العملية السياسية. و بالمحصلة ستنضم سورية على عدة مؤسسات عالمية و سيصبح التواصل مع العلم أسهل بحيث يمكن للسوريين السفر وتحويل الأموال والمشاركة الفعالة بالعمل التطوعي العالمي و المؤتمرات الدولية و المبادرات السياسية والاقتصادية بدون تعقيدات الدخول و الوصول، و سيتمكنون من تفعيل الخدمات الإلكترونية في ظل انتعاش السوق السورية وانتعاش الميزان التجاري للبلاد.
وكما تم الإعلان عنه، وفي مشهد يعكس تحوّلًا جذريًّا في السياسة الأميركية ، تُوّجت قرارات رفع العقوبات عن سورية باجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع رئيس المرحلة الانتقالية في سورية أحمد الشرع في الرياض، وكانت لحظة مفصلية تحمل دلالات عميقة في ظل تجاذبات إقليمية ودولية كبيرة؛ الخطوة التي تسهم في تعزيز التعاون الإقليمي، خاصة مع دول الخليج التي لعبت دورًا في دعم هذا التحول وكبحت جماح التطرف والعنف الدبلوماسي.
يُمثل رفع العقوبات الأميركية عن سورية فرصة حقيقية للبلاد للبدء في مرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية، بشرط أن تُقابل هذه الخطوة بإصلاحات داخلية حقيقية تضمن حقوق المواطنين وتُعزز من دور المؤسسات وتفتح البوابة أمام السوريين لإنجاح اقتصاد مستدام ومنفتح يؤمن دخول البلاد في عالم التقنية الرقمية و التطور الصناعي و التكنولوجي و يعيد جزءًا من الفاقد الاقتصادي و السياسي و الأمني إلى لبلاد.