تحقيقات وتقارير

ترامب في الخليج: تعزيز دور الحلفاء التقليديين… «هدية سورية» بديلا عن «خيبة غزة» والصفقة الكبرى لم يحن أوانها بعد

ترامب في الخليج: تعزيز دور الحلفاء التقليديين… «هدية سورية» بديلا عن «خيبة غزة» والصفقة الكبرى لم يحن أوانها بعد

رلى موفَّق

شهد الخليج العربي أربعة أيام سياسية حافلة بين 13 و16 أيار/مايو الحالي. خصَّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المنطقة بالزيارة الخارجية الأولى في ولايته الثانية كما فعل في ولايته الأولى، مع فارق 8 سنوات حصلت فيها أحداث وحروب وتحولات كبرى في المنطقة والعالم، لا تزال تداعياتها مستمرة، وفي مقدمها غزو روسيا لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، وهجوم «7 أكتوبر» 2023 الذي شنَّته حركة «حماس» على إسرائيل، والذي اعتُبر بمنزلة «11 أيلول» إسرائيلي.
في هذه الفترة الزمنية، تمَّ توقيع اتفاق سعودي – إيراني برعاية صينية لإعادة العلاقات الدبلوماسية في 10 آذار/مارس 2023 شكَّل الدخول السياسي الأول لبكين إلى المنطقة. وكانت المملكة العربية السعودية تقدَّمت بخطوات ملموسة في المفاوضات مع الأمريكيين حول مسار التطبيع مع إسرائيل وفق الرؤية السعودية التي استندت إلى عوامل أساسية هي توقيع اتفاقية دفاعية سعودية – أمريكية، وإنشاء برنامج نووي سلمي مدني في المملكة برعاية أمريكية، والتوصل إلى اتفاق لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يلبّي احتياجات الفلسطينيين ويجلب الهدوء إلى المنطقة. حينها كشف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، للمرة الأولى، عبر مقابلته مع «فوكس نيوز» في 21 أيلول/سبتمبر 2023 عن أن السعودية تقترب أكثر من التطبيع مع إسرائيل، وأن المفاوضات جادة. وكان سبق ذلك في الشهر نفسه الإعلان عن الممر الاقتصادي الهندي – الشرقي أوسطي الأوروبي خلال قمة العشرين في نيودلهي، والذي قُرئ في السياسة أنه مشروع في مواجهة مشروع «الطريق والحزام» الصيني.
نجحت دول الخليج في الخروج من دائرة الاصطفاف القاتل في الحرب الروسية على أوكرانيا، واستفادت من لعب دور «الحياد الإيجابي» وتوسيع مروحة الاتفاقات السياسية والشراكات الاقتصادية، ولا سيما أن لكل من دول الخليج رؤيتها الاقتصادية. وتعوِّل المملكة العربية السعودية على نجاح «رؤية 2030» التي أطلقها ولي العهد في 25 نيسان/أبريل 2016، وهو الذي قال قبل سنوات: «أعتقد أن أوروبا الجديدة ستكون الشرق الأوسط».
ما الذي تحقَّق خلال زيارة ترامب للسعودية وقطر والإمارات على صعيد الصفقات الاستثمارية؟
أعلنت الرياض عن التزامها باستثمارات تُقدَّر بـ600 مليار دولار. وتَّم توقيع اتفاقية مبيعات دفاعية وصفها ترامب بأنها الأكبر في التاريخ بقيمة تقارب 142 مليار دولار تهدف إلى تزويد المملكة بمعدات وخدمات قتالية متطورة. المملكة تطمح للحصول على طائرات «إف 35»، تعزِّز فيها قدراتها العسكرية، وهي طائرات من الجيل الخامس يُعطي سلاح الجو الإسرائيلي تفوقاً عسكرياً على الآخرين في الشرق الأوسط. شهدت زيارة ترامب توقيع اتفاقيات تتعلق بالاستثمار في مشاريع الطاقة والفضاء والذكاء الاصطناعي وغيرها من المجالات. هذا فيما تمَّ في الدوحة توقيع اتفاق بقيمة 200 مليار دولار لشراء الخطوط الجوية القطرية طائرات بوينغ، فيما حظيت الإمارات بشراكة استراتيجية في مجال الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يُحوِّلها إلى مركز عالمي للتكنولوجيا، في وقت أضحى فيه الذكاء الاصطناعي ساحة تنافس جيوسياسي. وسيضع هذا التحوُّل الخليج العربي عموماً، والإمارات خصوصاً، في موقع متقدِّم بين دول العالم بعد الولايات المتحدة والصين، بما سيعيد رسم خارطة القوة التكنولوجية في العالم.
لا شك في أن الرئيس الأمريكي الحالي يعتريه هاجس الاستثمارات، وكلما كانت قياسية كان ذلك معياراً لنجاحه في قيادة بلاده وجعلها عظيمة من جديد. رافع شعار «أمريكا أولاً» لا يقرأ إلا لغة الأرقام. عبَّر عن سعادته الكبرى وهو في طريق العودة إلى العاصمة الأمريكية بأنه حصل على 4 تريليونات دولار في 4 أيام، وبالتالي ليس محبطاً حتى ولو لم تسر المحادثات الروسية – الأوكرانية في إسطنبول كما كان يأمل، والتي كان مستعداً أن يطير إليها إذا جاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكان الأفق مفتوحاً للتوصل إلى اتفاق لوقف الحرب في أوكرانيا والذهاب إلى عملية سلام.
أخذ ترامب العلاقات الاستراتيجية مع الحلفاء التقليديين في المنطقة إلى مستوى آخر. فإلى الاستثمارات القياسية، حملت زيارته رسائل سياسية تُعيد رسم ملامح «توازن ما» في المنطقة. أكَّد من الرياض على دور المملكة القيادي وتأثيرها في المنطقة، وأبدى إعجابه بما تحقَّق فيها خلال سنوات بقيادة الأمير محمد بن سلمان وغازله كثيراً. ولم يفته في الدوحة مغازلة الأمير تميم بن حمد آل ثاني، ولا نسي الثناء على دور أبو ظبي في الاتفاقيات الإبراهيمية التي لا تزال هدفاً سامياً لدى «سيد البيت الأبيض»، ويعتبر أنها ستكون قصة نجاح عظيمة له إذا اكتمل عنقود التطبيع، والذي تُشكِّل السعودية الرافعة الحقيقية له في العالمَين العربي والإسلامي.

مخاض التغيير

ولكن العالم تغيَّر بعد «طوفان الأقصى» وما زالت المنطقة في مخاض هذا التغيير. ففي البُعد السياسي، حيث أمل العالم بأجمعه، لا العرب وحدهم، بأن يحمل ترامب خبراً سعيداً في شأن غزة كانت الخيبة. حتى إنها لم تكن في موقع متقدِّم من كلامه. وحين أتى على ذكرها في الدوحة، التي تؤدي دور الوسيط في محادثات الهدنة بين «حماس» وإسرائيل، أثار اقتراحه بأن على أمريكا أخذ غزة وتحويلها إلى «منطقة حرية»، جدلاً من جديد، باعتباره محاولة لإعادة توطين الفلسطينيين بشكل قسري. دفع ترامب بالوعود إلى المستقبل، بقوله في الإمارات إن الكثير من الأمور الإيجابية ستحدث في غزة خلال الشهور المقبلة، وإن العالم سيكون أفضل خلال أسابيع قليلة، وسنجد حلاً للوضع في غزة والمجاعة التي تحدث هناك… نُفكِّر في غزة وسنتولى الاعتناء بالأمر.
ولم يكن قد غادر المنطقة حتى أطلق الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية جديدة تحت مسمى «عربات جدعون»، أقرب إلى اجتياح شامل للقطاع، بهدف دفع سكان شمال ووسط القطاع إلى النزوح نحو رفح، ثم إلى خارج القطاع، إما باتجاه مصر أو إلى أقصى جنوب صحراء النقب، في أكبر عملية تهجير قسري جماعي في التاريخ الحديث، حسب المتابعين. ولا يُراهن في هذا الإطار على الكلام الممتلئ بالأوهام عن توتر العلاقة بين ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واستثناء تل أبيب من الزيارة إلى المنطقة.
الاختراق الحقيقي الذي حصل في هذه الزيارة، والذي يمكن النظر إليه على أنه إنجاز سياسي، هو القرار المتعلق برفع العقوبات عن سوريا، والذي شكَّل مفاجأة أكثر من المتوقع زاد من زخمها لقاء ترامب بالرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع. باع ترامب هذا الإنجاز للأمير محمد بن سلمان، وإن كان كل من الرئيس التركي رجب طيب اردوغان والإمارات وقطر قد لعبوا دوراً أيضاً لرفع العقوبات. التقى الشرع في الرياض ترامب بحضور بن سلمان ومشاركة هاتفية من قبل اردوغان. تحوَّل قرار رفع العقوبات عن سوريا ولقاء ترامب – الشرع إلى الحدث الأكبر خلال زيارة ترامب. ويُعدُّ منعطفاً تاريخياً يؤسِّس لانتقال سوريا من المعسكر الشرقي إلى الدخول في عصر العلاقة مع الغرب مع ما يحمله من تحولات جيوسياسية، ويتطلب إعادة النظر بدور دمشق في الجغرافيا السياسية الإقليمية. وبدا واضحاً أن الملف السوري وُضع على نار حامية، ولا سيما أن لقاء أنطاكيا بين وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو ونظيره السوري أسعد الشيباني، بحضور وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، بحث في خريطة طريق لمسار العلاقة الجديدة بين واشنطن ودمشق لكيفية خروج سوريا من العزلة إلى رحاب النظام العالمي، وكيفية تعاملها مع جملة المطالب الأمريكية، والتي يأتي من ضمنها ملف المقاتلين الأجانب، ومحاربة «داعش»، وملف «قسد»، وإدارة العلاقة التركية – الإسرائيلية في سوريا، وحماية كل المكونات السورية ومشاركتها في الحكم. والأهم ملف التطبيع بين سوريا وإسرائيل.
وستكون لعودة سوريا إلى الحضن العربي، وتحوُّلها الاستراتيجي، انعكاسات كبيرة على دول الجوار، من إسرائيل إلى الأردن والعراق ولبنان الذي حضر في أجندة ترامب في الرياض، حيث اعتبر أنه أمام فرصة تاريخية للتحرُّر من قبضة «حزب الله، مشدداً على أن أي دعم دولي للبنان سيكون مشروطاً بحصر السلاح بيد الدولة. ومضيفاً بالقول: «أسمع أن الإدارة الجديدة في لبنان محترفة وتريد الأفضل، نحن مستعدون لمساعدة لبنان على بناء مستقبل مع جيرانه، وعلى إقامة السلام معهم»، معتبراً أن «حزب الله» نهب الدولة اللبنانية وجلب البؤس إلى لبنان، وأن إيران نهبت دولة عاصمتها بيروت كانت تُسمى «باريس الشرق الأوسط». وكرَّر ولي العهد السعودي التأكيد على أن لبنان يجب أن يستعيد سيادته، وأن يكون السلاح محصوراً بيد الدولة.
في نظر المراقبين أن ترامب وبن سلمان ودول الخليج التي أعربت عن دعمها الكامل للقيادة الجديدة في لبنان إذا التزمت بالإصلاحات واستعادة القرار السيادي، ما زالت تمنح لبنان فترة سماح، لكنها ليست مفتوحة، ذلك أن القطار يسير، ومَن يتأخر، سيتخلَّف عن الصعود إليه.
يرى كثيرون أن العهد الجديد بدأ يأكل من رصيده داخلياً وخارجياً، وأن قوة الدفع التي حظي بها عند انطلاقها لا يمكنها أن تستمر من دون إنجازات ملموسة وفعل قوي. يحاول لبنان الاتكاء على الخارج للقيام بما يُفترض هو أن يفعل في إطار بسط سلطة الدولة على أراضيه، ويحاول تقطيع الوقت علَّ المحادثات الأمريكية – الإيرانية تأتي بنتائج إيجابية، تنعكس حلحلةً في ملف السلاح، الذي هو من وجهة نظر القيادة اللبنانية ملف إقليمي مفتاحه في طهران. ولكن مهما كانت نظرة السلطة اللبنانية الراهنة، فإن محاولة الالتفاف على ما هو مطلوب منها عربياً ودولياً يُبقي لبنان في عين العاصفة.
يدرك لبنان حجم التحولات، وقد تحدَّث رئيس الحكومة اللبناني عن «المشهد المهيب» الذي رُسم في المملكة خلال زيارة ترامب، معتبراً أن هناك «تحولاً كبيراً في المنطقة، وأن المملكة العربية السعودية نجحت في تكريس نفسها لاعباً أساسياً»، ومؤكداً أن «لا عودة إلى الوراء في حصرية السلاح»، وهو ما يؤكده على الدوام رئيس الجمهورية الذي يريد حواراً ثنائياً مع «حزب الله» حول ملف تسليم السلاح، لكن المسألة تبقى مرهونة بالأفعال لا الأقوال.
يبدو للمراقب أن في ثنايا حديث ترامب عن إيران ما يُشبه التمهيد لقرب التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني.
هو قال «أريد عقد صفقة مع إيران، وإذا استطعت، فسأكون سعيدًا للغاية بجعل المنطقة والعالم أكثر أمانًا. ولكن إذا رفضت القيادة الإيرانية غصن الزيتون هذا، واستمرت في مهاجمة جيرانها، فلن يكون أمامنا خيار سوى ممارسة أقصى درجات الضغط، ودفع صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، كما فعلت سابقًا». هو طلب من أمير قطر تقديم المساعدة في الملف الإيراني، وأكد أن إيران «لن تمتلك سلاحًا نوويًا أبدًا». ومع ذلك، أبدى استعدادًا لمنحها فرصة لمستقبل أكثر إشراقًا، وترك الخيار بيد القيادة الإيرانية. وأعاد دغدغة مشاعر القيادة الايرانية: «أريد حقًا أن تكون إيران دولة ناجحة، رائعة، آمنة، وعظيمة، لكن لا يمكنها امتلاك سلاح نووي. هذا العرض لن يبقى قائمًا إلى الأبد. الآن هو الوقت المناسب لاتخاذ القرار، وليس لدينا الكثير من الوقت للانتظار».
اختُتمت زيارة ترامب إلى الخليج محمّلة باتفاقيات استثمارية من الخليج نالها كما تمنى، وبهدايا سياسية لسوريا، وفترة سماح للبنان، وتلميحات إيجابية حيال اتفاق نووي مع إيران. إلا أن الملف الفلسطيني بقي خيبة الزيارة الكبرى. فقد رُحِّل الملف برمته، إلى جانب المطلب العربي ـ الإسلامي المتعلق بحل الدولتين، من دون أن تلوح في الأفق أي بوادر للحلحلة.
ترك ترامب للسعودية حرية اختيار توقيت التطبيع مع إسرائيل، إلا أن المعاهدة العسكرية لم تُستكمل، ولم تُطرح علنًا أي تفاصيل بشأن البرنامج النووي السلمي السعودي. وكأنما أراد ترامب أن يسير نصف خطوة فقط بعيدًا عن إسرائيل، مكتفيًا بتأكيد موقع السعودية لاعبًا رئيسيًا في المنطقة، وشريكًا استراتيجيًا لواشنطن، لكنه لم يتمكن ـ أو لم يرغب ـ في اتخاذ الخطوة الكاملة.
الصفقة الكبرى، على ما يبدو، لم يحن أوانها بعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب