تحقيقات وتقارير

جولة ترامب تدق أبواب الشرق الأوسط الجديد مآلات التحول بين الشخصي والكياني

جولة ترامب تدق أبواب الشرق الأوسط الجديد مآلات التحول بين الشخصي والكياني

محمد العزير

أطلقت الجولة الرسمية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي شملت المملكة العربية السعودية ودولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة، دينامية إقليمية واضحة تفتح آفاقًا جديدة في أكثر من اتجاه وتمس القضايا الحيوية في المنطقة من فلسطين إلى سوريا ولبنان وصولًا إلى مستقبل العلاقة مع الجمهورية الإسلامية في إيران، على ضوء المعطيات التي استجدت في العامين الماضيين وأعادت خلط موازين القوى بشكل عميق. وخلقت مواقف ترامب وتصريحاته في عواصم الدول الثلاث أجواء إيجابية تبشر بحضور أمريكي مختلف نوعيًا للمرة الأولى منذ عقود.
تختلف الصورة التي تركها ترامب لدى مغادرته أبو ظبي يوم الجمعة، كثيرًا عن الانطباع الذي كان سائدًا قبل وصوله إلى الرياض يوم الإثنين، فالرجل الذي جاء إلى السعودية الأسبوع الماضي، لم يكن نفسه الذي قصد المملكة في مستهل ولايته الأولى عام 2017، لم يتعمد شخصنة الزيارة كما فعل سابقًا، لم يجلب معه أفراد عائلته، ولم يتصرف كجابٍ يستعجل تحصيل الرسوم. هذه المرة بدا الرئيس العائد إلى البيت الأبيض، أكثر نضجًا وهدوءا، جلب معه نصف وزراء إدارته ورؤساء مجالس إدارات كبريات الشركات في قطاعات الصناعة والطاقة والمال والإنترنت والذكاء الاصطناعي، وركز في أحاديثه على الشراكة مع دول الخليج وليس على الجباية منها.
لم يقتصر التغيير على السلوك الشخصي للرئيس الأمريكي بل كانت مواقفه في جميع المجالات مختلفة وهو مهّد لذلك بخطوات مفاجئة، ففي ظل تواصل المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي (وضمنًا دورها الإقليمي) جاء الإعلان عن وقف الهجمات على مواقع ومسؤولي جماعة «أنصار الله» التي يقودها عبد الملك الحوثي في اليمن، مقابل توقف الجماعة عن استهداف الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن، ليفاجئ الجميع وخصوصًا إسرائيل التي لم يشمل الاتفاق وقف استهدافها بالصواريخ والمسيرات اليمنية، وقبل أن يتبدد صدى الاتفاق تم الإعلان عن جولة جديدة من المفاوضات بين الإدارة الأمريكية وحركة حماس أفضت إلى إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير في غزة عيدان ألكسندر الذي يحمل الجنسية الأمريكية وهو ما فاجأ إسرائيل أيضًا حيث لم تكن على علم بالأمر.
وفي الرياض أولى محطات الجولة وقع الجانبان الأمريكي والسعودي على عدد من الاتفاقات ومذكرات التفاهم التي شملت التسلح والاستثمارات والشراكة في التقنيات الحديثة وحصول المملكة على برنامج نووي سلمي، واللافت في الأمر أن ترامب لم يربط بين تزويد المملكة بالأسلحة الحديثة أو مساعدتها فنيًا لإنتاج الطاقة النووية وبين مسار التطبيع بينها وبين إسرائيل وهو ما كان سلفه بايدن يحرص على تكراره كلازمة في كل مواقفه المتعلقة بالموضوع، وهذا ما توقفت الصحف والمنصات الإعلامية الإسرائيلية عنده ورأت فيه نوعًا من الإهمال المتعمد لموقف تل أبيب، وما زاد من ذلك هو امتداح ترامب لقطر وأميرها الشيخ تميم بن حمد وتأكيده على الثقة بهما وشكرهما على مساعدتهما للولايات المتحدة، في الوقت الذي تشن فيه الحكومة الإسرائيلية حملات مدروسة تتهم فيها الدوحة بدعم حركة حماس.
في المقابل كانت علامات الفتور تزداد بروزا بين ترامب وبين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي كان يتصرف وكأن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تعني إطلاق يده في الشرق الأوسط وتحكمه الكامل بقرارات واشنطن، فقد سارع نتنياهو إلى البيت الأبيض، عند إعلان ترامب إدراج إسرائيل ضمن الدول التي تشملها إجراءات رفع التعرفة الجمركية على صادراتها إلى أمريكا، في محاولة لتجريب دبلوماسيته الماكرة لدفع ترامب إلى إعفاء إسرائيل من الجمرك، لكن الأخير، وأمام عشرات الصحافيين الذين كانت عدساتهم تنقل وقائع اللقاء مباشرة صدم نتنياهو بشدة عندما أبلغه بقراره استئناف المفاوضات مع إيران، وبدت الصدمة واضحة على وجه نتنياهو الذي كان يهدد طهران بتدمير منشآتها النووية وتغيير نظامها الحاكم.

مفاوضات واشنطن
وحركة حماس

لم يكن ذلك الموقف «الدعسة الناقصة» الأولى في العلاقة التي اعتقد نتنياهو أنه يتحكم بها بوجود صديقه الحميم في البيت الأبيض. سبقها بحوالي شهر الإعلان عن مفاوضات مباشرة بين المبعوث الرئاسي الأمريكي لشؤون الرهائن آدم بوهلر وكبير مفاوضي حماس خليل الحية في الدوحة، ما أثار حفيظة الحكومة الإسرائيلية التي علمت بالمفاوضات التي جرت في الدوحة عبر وسائل الإعلام، وعملت على الفور على إحباط أية فرصة لنجاحها من خلال التصعيد العسكري ميدانيًا و«الشوشرة» الإعلامية الهائلة التي جعلت حركة حماس في موقف يظهرها وكأنها تقدم تنازلات مجانية إذا عقدت أي اتفاق.
وجاء الإعلان عن نجاح المفاوضات الجديدة بين واشنطن وحركة حماس، عشية الجولة الترامبية، والتي قادها هذه المرة المبعوث الرئاسي الأكبر ستيف ويتكوف، والاتفاق على إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي عيدان الكسندر الذي يحمل الجنسية الأمريكية بمفرده ليزيد من حنق نتنياهو الذي نفّذ الطلب الأمريكي بوقف عمليات قواته في قطاع غزة لبضع ساعات، لإفساح المجال أمام عودة الكسندر، الذي تعمدت عائلته شكر ترامب على مساعيه وتجاهلت نتنياهو وحكومته، وسط تصعيد كبير للاحتجاجات التي يقوم بها أهل من تبقى من أسرى لدى حماس ومناصروهم والذين اتهموا رئيس حكومتهم بتجاهل مصير أبنائهم وأخوانهم والحكم عليهم بالموت من أجل البقاء في السلطة واسترضاء المتطرفين في تحالفه الحاكم، خصوصًا وأنه جاهر بالقول إن الهدف الأهم للحرب على غزة هي إعادة احتلال القطاع والقضاء كليًا على حركة حماس، وأن قضية الأسرى ليست الأهم.
لم تكن أجواء الاستعداد لجولة ترامب أقل إزعاجًا لنتنياهو وفريقه، فقد رفض الرئيس إدراج تل أبيب كمحطة في جولته، وأبدى امتعاضه من الاتصالات الكثيفة التي تطلب منه ذلك، خصوصًا من النواب والشيوخ القريبين من «إيباك» ومن قوى الضغط الصهيونية، إلى درجة انه استدعى وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون دريمر، شبه المقيم في واشنطن التي خدم فيها لثماني سنوات كسفير، ليبلغه بلغة حازمة وفق تقارير إعلامية، أنه لن يتسامح مع أي تشويش إسرائيلي على جولته الخليجية، وأن على نتنياهو الكف عن محاولات «التلاعب به» وكان ملفتًا أن عدة صحف ومواقع إخبارية نقلت عن مصادر في البيت الأبيض أن ترامب سئم من مناورات نتنياهو وان أكثر ما يكرهه هو أن يشعر أن أحدًا يحاول أن يتحكم به وبقراراته، وعلى هامش تلك التقارير تسرّب أن أحد أسباب اعفاء مستشار الأمن القومي السابق مايك والتز هو أنه أطلع نتنياهو على بعض الأمور الحساسة خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، وهو ما سارعت تل أبيب إلى نفيه.

الحفاوة
السعودية

على هذه الخلفية جاء التجاوب الكامل لترامب مع الحفاوة السعودية الكبيرة التي قابلته في الرياض والدرعية، وإظهار حماسه الكبير لتطوير العلاقات الأمريكية الخليجية على نحو غير مسبوق ليرفع منسوب القلق الإسرائيلي، وتوج ترامب إهماله لإسرائيل وحكومتها بإعلان رفع العقوبات عن سوريا (على الرغم من التمني الإسرائيلي الرافض لذلك)، ولقائه الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في حضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ثم حرصه على امتداح الشرع كرئيس قوي ومتمكن وقادر على تحقيق مستقبل أفضل لسوريا بكل أطيافها، وهذا يعني ببساطة سحب التفويض الذي كان نتنياهو يعتقد أنه يملكه للتدخل في سوريا عسكريًا وتأليب بعض مكونات الشعب السوري على الحكم الجديد وتأجيج الفتن في دولة عانت من الحرب والاحتقان الأهلي لسنوات طويلة، ويعني أيضَا أن ترامب (إن لم تكن واشنطن كلها) لم تعد تنظر إلى الوضع العربي بالمنظار الإسرائيلي الحصري، وأن أي تغيير إقليمي سيأخذ في الاعتبار المصالح العربية، على الأقل من المنظور السعودي، وبالتعاون مع تركيا كما صرّح ترامب نفسه.
لا جدال في أن المسألة الشخصية تعني ترامب النرجسي كثيرًا. وكما يبدو من مآلات جولته الأخيرة فإنه خلال السنوات الثماني الماضية عدّل من تقييمه لبعض الأصدقاء وبالتحديد من يتولى الأمر في الرياض وتل أبيب. عندما فاجأ ترامب العالم وفاز بالرئاسة عام 2016، كان من أبرز داعميه ومموليه الثري اليهودي الأمريكي اليميني شيلدون آدلسون الذي جمع ثروته من الاستثمار في القمار والمراهنات، والذي تبرع لحملة ترامب والحزب الجمهوري بأكثر من 100 مليون دولار. كانت صهيونية آدلسون طاغية على اهتماماته، وكانت معرفته الشخصية بترامب من خلال قطاع الكازينوهات مقدمة لعلاقة الأخير بنتنياهو الذي كان رئيسًا لحكومة إسرائيل وأيقونة اليمين الديني في أمريكا، وهكذا قفز ترامب فوق كل شبهات معاداة السامية والنزعات العنصرية لأبرز مؤيديه وحظي بالدعم الإعلامي والشعبي الذي تمون عليه الدوائر الصهيونية المتشددة في أمريكا، وهكذا أعطى ترامب لنتنياهو واليمين الإسرائيلي ما لم يكن واردًا في أحلامهما، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، الاعتراف بضم هضبة الجولان السورية، ورفع الحظر عن التعامل مع المستوطنات، وإجبار دول عربية على القبول بالاتفاقات الإبراهيمية التي تفك من عزلة إسرائيل.
لكن خسارة ترامب لانتخابات 2020، وخروجه من البيت الأبيض دفعت انتهازية نتنياهو الذي يعرف النظام الأمريكي جيدًا، إلى أن يكون أول من هنأ بايدن بالفوز، وهو ما أثار حفيظة ترامب الذي جاهر باستيائه من ذلك وأعرب عن خيبة أمله بـ «بيبي»، إلا أن نتنياهو بحكم معرفته للسياسة الأمريكية، حاول في عز التضامن الرسمي الأمريكي مع إسرائيل بعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، وبعد نجاح ترامب في الفوز بتزكية الحزب الجمهوري له مجددًا، الإيحاء بأنه من خلال رفضه لمساعي بايدن لوقف إطلاق النار، وهي مساعٍ زائفة بالطبع، إنما يعزز فرص ترامب بالفوز في الانتخابات الرئاسية، وكان أول المهنئين له مستخدمًا مبالغات لفظية اعتبر فيها فوز ترامب أعظم إياب في التاريخ. كان ترامب العائد هذه المرة متسلحًا بمن هم أكثر ثراءً من آدلسون، الذي قضى نحبه عام 2021، وأوسع نفوذًا من أرملته ميريام التي لم تقدر على مجاراة المؤيدين الجدد وخصوصًا الملياردير ايلون ماسك الذي دعم ترامب بربع مليار دولار.
في المقابل، عندما زار ترامب الرياض كرئيس أول مرة في أيار/مايو 2017، كان الأمير محمد بن سلمان وليا لولي العهد. لاحظ ترامب الدور الكبير جدًا الذي يلعبه الأمير الشاب، وهو ابن الملك سلمان، لكن عدم إلمامه بتفاصيل البلاط السعودي جعله مع مستشاريه غير قادرين على تقييم دوره المحوري. أسابيع قليلة بعد الزيارة التي تباهى بها ترامب بجباية أموال طائلة من المملكة، تبوأ الأمير محمد سدة ولاية العهد وحرص على التواصل مع ترامب وفريقه وأبدى استعداده للعمل مع واشنطن بما يخدم مصالح البلدين. في تلك الأيام كانت الخريطة الإقليمية مختلفة. كانت إيران المستفيدة من عوائد الاتفاق النووي مع إدارة بارك أوباما تستعرض عضلاتها عربيًا في العواصم الأربع، بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، وكانت السعودية والإمارات في مرمى نيران الحوثيين، وكان الإقليم كله على كف عفريت.
عندما فاز بايدن، وهو يرفع شعار تحويل المملكة العربية السعودية إلى دولة معزولة، لم يرتعد محمد بن سلمان أمامه، قابله بفتور مماثل يستند إلى مقدرات كل منهما، ولكن محاولة روسيا اجتياح أوكرانيا عام 2022، والتي كانت أولى آثارها اضطراب سوق النفط والطاقة، جعلا بايدن يبتلع كلامه المسيء ضد السعودية ويتوجه إلى الرياض على أمل أن تفتح المملكة أنابيب النفط للسوق العالمية لخفض أسعار الطاقة وتفادي التضخم في أمريكا والدول الغربية. استقبل الأمير محمد الرئيس بايدن كرئيس دولة هامشية، وبعد يومين من المفاوضات أعلنت السعودية أنها ستخفض إنتاج النفط لأن مصالحها الاقتصادية تتطلب ذلك، وعاد بايدن إلى واشنطن خالي الوفاض. لم تكن هذه الواقعة غائبة عن رادار ترامب الذي كان يخطط للعودة إلى البيت الأبيض. فبين نتنياهو الذي انبطح لبايدن وحقق ما أراد، وبين بن سلمان الذي خيّب ظن بايدن، ارتأى ترامب أن الأخير أفضل، لذلك حرص في كل محطات زيارته إلى المملكة على الإشادة به والتعبير عن امتنانه له.
قال ترامب الكثير خلال جولته القصيرة نسبيًا، لكن ما قاله كرئيس لأقوى قوة عظمى في العالم يحمل الكثير من الوزن والمفعول. ففي أمريكا هناك طرفان متناقضان لا يتساويان في المقدرة والنفوذ. الطرف الصهيوني المستند إلى مؤسسات دينية وكنسية وسياسية وشعبية يمتد تاريخها إلى قرنين على الأقل (إذا لم نحتسب العامل المسمى بتراث اليهومسيحية) أي «Judeo-Christian»، والطرف العربي حديث العهد بالعمل السياسي وغير المستند إلى قواعد شعبية أو نخبوية وازنة، ومنذ نشوء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، كان الطرف الأخير هو الأقل نفوذًا، حتى أن القليلين من المسؤولين الرسميين في الإدارة الأمريكية والذين كانوا يحاولون إيجاد توازن بين التيار الصهيوني الجارف في أمريكا وبين المنادين بالحرص على المصالح المشتركة مع العرب، تم التضييق عليهم، خصوصًا في وزارة الخارجية وأطلق عليهم لقب «المستعربين» قبل أن تتم إزاحتهم في عهد هنري كيسنجر حين تولى وزارة الخارجية في عهد ريتشارد نيكسون.
هل ستكون انعطافة ترامب بداية لمقاربة أمريكية مختلفة للعلاقة مع العرب، لا تقوم على النظر إلى العالم العربي ككل بمنظار إسرائيلي كما كان الأمر منذ عهد هاري ترومان الذي مدد الدوام الرسمي في أمريكا لساعات حتى يكون أول رئيس يعترف بإسرائيل كدولة قبل 77 سنة بالضبط؟ وهل ستعيد انعطافة ترامب الاحترام لموظفي الخارجية الأمريكية الذين أطلق عليهم اسم «المستعربين» لأنهم حاولوا الموازنة بين قيام دولة إسرائيل وبين مصالح أمريكا مع العرب ككل في حينه؟
لا شك في أن واقع ووقائع المرحلة الراهنة لم تعد تسمح بترهات وسخافات السنتين الأخيرتين، لكن المراهنة على مستقبل يقوده ترامب ليس أكثر جدية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب