أهالي مغاير الدير يهجرون قسرا… تجمع فلسطيني لاحقه إرهاب المستوطنين

أهالي مغاير الدير يهجرون قسرا… تجمع فلسطيني لاحقه إرهاب المستوطنين
يقول إبراهيم مليحات وهو أحد سكان التجمع، في حديث لـ”عرب 48″، إنه “قررنا الرحيل لأننا فقدنا القدرة على التحمل. لا حماية ولا مؤسسات ولا قانون يحمينا. المستوطنون يهاجموننا تحت نظر الجيش، والتهديد بالقتل صار يوميًا”.
على أطراف مدينة رام الله، وفي امتداد الصحراء المفتوحة جنوبًا نحو النقب، تتكشف ملامح مأساة إنسانية صامتة، حيث تتكرر موجات التهجير القسري بحق التجمعات البدوية الفلسطينية، تحت ضغط متواصل من إرهاب واعتداءات المستوطنين، مع غياب الحماية وتآكل الأمل.
ويروي مراسل “عرب 48” قائلا، في تجمع مغاير الدير البدوي، وصلنا بعد أن اجتزنا طريقًا ترابيًا ضيقًا، بالكاد يتسع لمرور السيارات. فجأة، مرت سيارة مسرعة، كان بداخلها ثلاثة مستوطنون، أحدهم أخرج بندقية من طراز M16، وهو سلاح رسمي يستخدمه الجيش الإسرائيلي، وبدأ يلوح بها في وجه النشطاء والسكان. السخرية الصاخبة التي أطلقها المستوطنون كانت أشبه برسائل تهديد، في مسرح استعلاء يتكرر كل يوم.
كلمات على جدران المساكن: “سنعود، وأنتم ستختفون”
على مسافة قصيرة من المكان، أي ما يقارب 150 مترًا لا أكثر، أقيمت بؤرة استيطانية جديدة، واحدة من مئات البؤر العشوائية التي باتت تنتشر كأذرع لسياسة ممنهجة، تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني تدريجيًا. وفي منزل مهجور داخل التجمع، تركت العائلة التي رحلت على عجالة ما تبقى من تفاصيل حياتها اليومية: مواد غذائية أساسية ومسليات أطفال، وكلمات غاضبة خُطت على الجدران: “سنعود، وأنتم ستختفون”. الكلمات لم تُكتب عبثًا، كانت صرخة وداع، ووعدًا بالعودة.
يقول إبراهيم مليحات وهو أحد سكان التجمع، في حديث لـ”عرب 48“، إنه “قررنا الرحيل لأننا فقدنا القدرة على التحمل. لا حماية ولا مؤسسات ولا قانون يحمينا. المستوطنون يهاجموننا تحت نظر الجيش، والتهديد بالقتل صار يوميًا”.
وأضاف وهو يلمح إلى مجموعة من المستوطنين الذين يراقبون من بؤرة استيطانية جديدة تبعد مئات الأمتار فقط عن مكان تواجده “هدموا منازلنا بشكل متكرر، ولم يكتفوا بذلك، بل هددونا بالطرد القسري والقتل. هذه ليست مجرد تهديدات كلامية، بل هي واقع نعيشه يوميًا. ورأينا الكثير من حالات القتل التي تورط فيها مستوطنون ضد فلسطينيين ولم يعاقبوا لأنهم يتمتعون بالحماية”.
خلف هذه الكلمات تتراكم مشاعر الخوف والغضب واليأس، فيما تبقى أصوات السكان صدى لا يُسمع في ظل صمت دولي مستمر، وتواطؤ مؤسسي يوفر للمستوطنين غطاء يتيح لهم فرض وقائع جديدة على الأرض دون حسيب أو رقيب.
صمت دولي أمام هذه الانتهاكات
تعيش نحو 25 عائلة في مغاير الدير، إحدى التجمعات البدوية المهجرة مرتين، الأولى كانت في الثمانينيات، حينما أُقيم معسكر عسكري إسرائيلي قرب القدس، والثانية الآن على يد المستوطنين الذين يستولون على الأرض ويزرعونها بحماية الجنود. وفقًا لمنظمة “السلام الآن”، فإن هذه المشاريع الاستيطانية، خصوصًا الزراعية منها التي يتراوح معدل كل بؤرة بين 2000 إلى 5000 دونم، وباتت تمتد على مساحات تتجاوز 800 ألف دونم، قد جرى تخصيصها لرعي الأغنام والزراعة، وكل هذا طبعًا بطرق غير قانونية.
أهالي مغاير الدير يهجرون قسرا… تجمع فلسطيني لاحقه إرهاب المستوطنين
تقرير: ضياء حاج يحيى (عرب 48)
التفاصيل: https://t.co/Q0YsgFLIfx pic.twitter.com/vxp5vZrvZw— موقع عرب 48 (@arab48website) May 23, 2025
ويبدو أن هذه الممارسات مدعومة بالمال والجمعيات والمصالح السياسية في الحكومة الإسرائيلية، إذ يعمل المستوطنون بتنسيق كامل مع الجيش الذي يحميهم ويدعمهم في كل خطوة. وعلى الرغم من ذلك، يبقى المجتمع الدولي صامتًا أمام هذه الانتهاكات، لتمارس إسرائيل سياسة الاستيطان كجزء من إستراتيجيتها لتوسيع السيطرة على الأراضي الفلسطينية، كما يظهر دعم الحكومة بشكل واضح، على سبيل المثال قام مستشار وزير الأمن يوم الخميس الماضي بتثبيت المستوطنة “تسفي سوكوت” بجانب الشخصيات السياسية الكبيرة من اليمين، مما يوضح بجلاء أن الاستيطان هو سياسة رسمية ليست فقط دعمًا مستترًا، بل يُبارك رسميًا بها من قبل قادة الحكومة.
واقع جديد من دون أي مساءلة
لكن هذا الاستيطان لا يتوقف عند بناء مستوطنات فحسب، بل يشمل أيضًا تأسيس بنية تحتية غير قانونية تحت ستار “التوطين”. المستوطنون لا يعملون بمفردهم بل يتلقون دعمًا من الجمعيات الاستيطانية، مما يعمق معاناة الفلسطينيين الذين يجدون أنفسهم مضطهدين بشكل مستمر. في هذه الأثناء، يواصل الجيش الإسرائيلي توفير الحماية للمستوطنين الذين يفرضون واقعًا جديدًا على الفلسطينيين من دون أي مساءلة.
المأساة لا تقتصر على رام الله فقط. ففي النقب يتكرر السيناريو: قرى بأكملها غير معترف بها، أطفال يُحرمون من التعليم والرعاية الصحية، وعائلات تعيش على حافة التهجير الدائم. لا كهرباء، ولا مياه جارية، ولا أدنى مقومات الحياة. ومثلما في الضفة، يترافق هذا التهميش مع توسع استيطاني زراعي وصناعي، مدعوم من الحكومة الإسرائيلية بشكل مباشر أو غير مباشر.
الاستيطان اليوم لم يعد فقط مسألة بناء منازل. إنه مشروع سياسي – اقتصادي متكامل، يقوده مستوطنون منظمون يتلقون الدعم من جمعيات ممولة حكوميًا، ويحظون بحماية عسكرية وغطاء سياسي رسمي فيما تغيب المحاسبة. في مغاير الدير، على سبيل المثال، لم تُفتح تحقيقات بشأن الهجمات الأخيرة، رغم وجود شهادات مباشرة وصور موثقة.
“هددونا بالقتل وسرقة مواشينا”
وقال الشاب يزن مليحات الذي تحدث لـ”عرب 48“، عن حالة من الترقب المستمر والتهديد الواضح الذي يعيشه السكان البدو في المنطقة “عندما ننام هنا، نعلم أن هناك خطرًا يداهمنا في أي لحظة. هؤلاء المستوطنون لا يتوقفون عن محاولة السيطرة على أراضينا، وهم مدعومون من قوات الجيش التي تلتزم الصمت أو تتواطأ أحيانًا. قبل يومين أحرقوا النار بجانب بيوتنا بتهديد واضح أنهم سيحرقوننا إذا لم نخرج. أكثر من عامين ونحن في حرب يومية معهم دون أن يتحرك أحد. لا مؤسسات دولية ولا قانون دولي”.
وأضاف “نحن هنا أبًا عن جد. أكثر من 40 عامًا في هذه المنطقة. كل ذكرياتي بنيتها هنا مع العائلة. لا يوجد شعور أصعب من أن تهجر قسرًا وتترك كل شيء، وخصوصا أننا لا نعرف إلى أين نذهب. لا يوجد مكان محدد نسكن فيه. ولم يبق أمامنا إلا الرحيل لأنهم هددونا بالقتل وقتل أولادنا وسرقة مواشينا”.
ويتابع مليحات بحزن قائلا “لقد اعتدنا على الحياة بين الجبال والسهول، لكن مع استمرار هذه الهجمات اليومية من المستوطنين، أصبحنا نفكر في الرحيل إلى أماكن أكثر أمانًا”.
توسع الاستيطان بلا رادع
اليوم، يبدو أن القضية ليست فقط في التهجير القسري، بل في التواطؤ على الصمت. وفي وقت تتوالى فيه الإدانات الشكلية من بعض الجهات الدولية، يتوسع المشروع الاستيطاني بلا رادع، فيما يُترك السكان البدو ليواجهوا مصيرهم وحدهم، في صراع غير متكافئ على الأرض والهوية والبقاء.
في مغاير الدير، كما في غزة، لا تحتاج الحرب إلى صواريخ ودبابات كي تُفني الحياة. أحيانًا، يكفي أن تُسرق الأرض، أن تُهدَم البيوت على مهل، أن يُطرد الناس بلا إنذار، ويُتركوا يواجهون العراء والخذلان. مشاهد الركام واحدة: في كل بيت مهجور بقايا وسادة، فُتات لعبة، أو دفتر طفل لم يكمل الحرف الأخير، وكيس من الحلويات ترك. وهذه ليست مجرد تفاصيل عابرة، بل شهادات حية على جريمة تتكرر منذ عام النكبة، حين بدأت القافلة الأولى من التهجير القسري، ولا تزال تمضي، تُبدل الأمكنة والهدف ثابت لا يتبدل، تُعيد رسم الخرائط بالنار والتواطؤ.
مغاير الدير ليست استثناءً، بل هي فصل جديد في سردية الاقتلاع القديمة، تلك التي تقول إن الوطن يمكن أن يُنتزع، مرة بعد مرة، بلا قذائف، فقط عبر صمت طويل، وشر يتقن التنكر في ثياب القانون المنحاز سلفًا.
اقرأ/ي أيضًا | تقرير: إسرائيل “تستعجل الحسم” بالضفة الغربية