تصريح غولان حول قتل أطفال غزة: تغريد خارج السرب

تصريح غولان حول قتل أطفال غزة: تغريد خارج السرب
إن تعاظم المعارضة الدولية، وخاصة الأوروبية، للحرب، بدأ يُترجَم إلى فعل يهدّد مصالح إسرائيل التجارية ويعزلها دوليًا، خصوصًا مع الانكشاف الكامل لأهداف الحرب، التي باتت تخدم استمرار حكومة نتنياهو وأهداف أطراف ائتلافه الاستيطانية فقط….
التعامل مع تصريح زعيم حزب “الديمقراطيين”، الجنرال (احتياط) يائير غولان، الذي قال إن “قتل الأطفال الذي تمارسه إسرائيل في غزة تحوّل إلى هواية”، من باب “شهد شاهد من أهلها”، لا يجب أن يعمينا عن رؤية “أهلها” الذين تداعوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين لاستنكار هذه التصريحات، والاصطفاف خلف السياسة الرسمية لإسرائيل وحرب الإبادة التي تشنّها حكومتها، والتأكيد على أن “الجيش الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية في العالم”.
فلم يبقَ صحافي أو سياسي في إسرائيل لم يستنكر تصريحات غولان ويدنها، ويردّد المعزوفة الإسرائيلية الكاذبة حول أخلاقية الجيش الإسرائيلي، حيث توحّدت المعارضة والائتلاف في أوسع حكومة “وحدة قومية”، ليتأكّد أن ماكينة التحريض السامّة ليست حكرًا على أتباع نتنياهو، بل إن “المينستريم” أيضًا لديه ماكينة تحريض تبثّ سمومها ضد كل من يسبح بعكس التيار، كما يقول الكاتب روغل ألفر في “هآرتس”.
ألفر ربط بين خطاب غولان عندما كان نائبًا لرئيس الأركان، الذي شبّه فيه المجتمع الإسرائيلي بالمجتمع الألماني خلال السنوات الأولى من النازية، وبين خطابه الحالي، مشيرًا إلى أنه قام في الحالتين بكسر “تابو” عندما شكّك بمنظومة الأخلاق الإسرائيلية: الأولى بواسطة المقارنة مع ألمانيا النازية، والثانية بواسطة الادعاء أن قتل الأطفال في غزة مرفوض بدوافع أخلاقية أولًا وليس بدوافع نفعية فقط، لأن حتى المعارضين لقتل الأطفال الغزيين من الإسرائيليين يعارضون ذلك بدوافع نفعية تتعلّق بالضرر الذي يلحقه ذلك بسمعة إسرائيل الدولية.
ومن الطبيعي أن لا يشفع لغولان تاريخه العسكري الطويل، ولا الرتب والأوسمة التي يحملها فوق كتفيه وتزيّن صدره، مثلما لم تشفع من قبل للجنرال (احتياط) وقائد الأركان الأسبق موشيه يعلون، الذي سبق واتّهم الجيش الإسرائيلي بممارسة جريمة تطهير عرقي خلال عمليته في شمال قطاع غزة، وهو ما يؤشّر إلى قوّة الإجماع الصهيوني وقدرته على قذف حتى من كانوا يُعتبرون من خيرة “أبطاله” إلى خارج المعسكر، بمجرّد “زلة لسان”.
لكن، برغم الإجماع البادي الذي جوبهت به هذه التصريحات – والتي يُضاف إليها أيضًا تصريحات رئيس الحكومة الأسبق حول ارتكاب إسرائيل جريمة حرب في غزة – والتي تأتي وإسرائيل على أعتاب الدخول في مرحلة جديدة من حربها الطويلة على غزة، فشلت فيها حتى الآن في تحقيق أي من أهدافها: بتحرير الأسرى الإسرائيليين، أو القضاء على حماس عسكريًّا وسلطويًّا، يجب أن لا ننسى أن هذه المرحلة من الحرب لا تحظى بالإجماع الإسرائيلي الذي كان قائمًا حتى الآن؛ حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن 67% من الإسرائيليين يؤيدون وقف الحرب مقابل تحرير الأسرى. إضافة إلى أنها تفتقر إلى مصداقية كافية في صفوف الجيش، وخاصة وحدات الاحتياط التي أرهقتها الخدمة الطويلة.
من جهة، فإن تعاظم المعارضة الدولية، وخاصة الأوروبية، للحرب، بدأ يُترجَم إلى فعل يهدّد مصالح إسرائيل التجارية ويعزلها دوليًا، خصوصًا مع الانكشاف الكامل لأهداف الحرب، التي باتت تخدم استمرار حكومة نتنياهو وأهداف أطراف ائتلافه الاستيطانية فقط، وتَبيّن الخيط الذي يربط بينها وبين استكمال مخطّط الانقلاب القضائي وتغيير طبيعة النظام السياسي في إسرائيل، والذي يجري بوتائر متسارعة تحت دخانها.
وبات واضحًا أكثر من أي وقت مضى، أن استئناف الحرب في آذار/مارس 2025 جاء، بلا شك، لإعطاء تنفّس اصطناعي لحكومة نتنياهو، فهو – كما يقول يجئال ليفي، الباحث المختص بشؤون الجيش – سمح بعودة حزب بن غفير إلى الائتلاف، وأجّل الضغوطات المطالِبة باستقالة نتنياهو وإقامة لجنة تحقيق رسمية. هذا إضافة إلى أنها ساهمت في إسكات حركة الاحتجاج ضد الحكومة، وغيرها من العمليات التي تحدّ من حرية التعبير، بدعوى أن لا مجال لها خلال الحرب.
ليفي، الذي يتّهم الجيش بالتواطؤ مع الحكومة، يقول في مقاله بعنوان “الجيش في خدمة نتنياهو…” إنه لا حاجة بأن يقوم جنوده بقمع الحريات السياسية بأنفسهم، بل يكفي أن يعمل الجيش على صيانة حالة الحرب لكي تتمكن أذرع أخرى من القيام بذلك. وهو يشير إلى أن التاريخ القريب للديمقراطيات الأخرى لم يعرف حالة من هذا النوع، ويعارض ما قاله قائد الأركان السابق موشيه يعالون، الذي ادّعى أن واجب قائد الأركان أن لا ينفّذ أمرًا غير قانوني يرتفع فوقه علم أسود، لأن معارضة المستوى السياسي ليست من صلاحياته، لكنه يمتلك صلاحية بأن لا يأمر الجيش بالحرب في هذه الظروف.
إلا أنه يستدرك ليختم بالقول: إن رئيس الأركان أيال زمير، الذي استُجلب للعودة إلى الحياة العسكرية لشغل منصب رئيس الأركان لهذا الغرض أصلًا، يسمح بتنفيذ “انقلاب من الداخل”، بمعنى: العمل من خلال مؤسسات الدولة لتعزيز بقاء مجموعة سياسية موجودة في الحكم، مقابل خصومها.