أوروبا وإسرائيل: أصداء من السابقة الديغولية

أوروبا وإسرائيل: أصداء من السابقة الديغولية
مالك التريكي
ما أسرع ما بادر بعض العرب إلى الانتقاص من أهمية البيان الذي أعلنت فيه كل من فرنسا وبريطانيا وكندا شجبها، بلهجة غير مسبوقة، لحرب التدمير الكلي والتجويع الممنهج التي يشنها جيش الاحتلال على شعب غزة المحاصر المنهك الأعزل. بينما الواقع أن هذا هو أجرأُ المواقف الغربية المعلنة من جرائم الكيان الصهيوني على مدى حوالي ستة عقود. إذ لا بد، للعثور على موقف مماثل، من إرجاع الشريط 58 سنة: حيث إن السابقة حدثت يوم 27 نوفمبر 1967 أثناء مؤتمر صحافي تطرق فيه الجنرال ديغول لأهم قضايا الساعة: شجبه للحرب الأمريكية على فيتنام، وانتقاده للسياسات النقدية الأمريكية، ورفضه لانضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة، وموقفه من سيادة بولندا ودول أوروبا الشرقية، الخ. أما رؤيته للوضع في «الشرق» (هكذا يسميه) بعد أشهر من حرب حزيران، فقد بدأ شرحها باستعراض العوامل التاريخية التي يسرت قيام دولة إسرائيل، ثم قال: «ثمة من كان يخشى أن اليهود، الذين ظلوا حتى آنذاك أشتاتا ولكنهم بقوا كما كانوا منذ قديم الزمان، أي شعبَ نخبة واثقا من نفسه وميالا للهيمنة، سيؤول بهم الأمر، إذا تجمعوا ثانية في موقع مجدهم الأثيل، إلى أن يحوّلوا إلى طموح توسعي جامح كلَّ تلك الأماني المُشْجِية التي ما انفكوا يرددونها منذ 19 قرنا: العام القادم في أورشليم». ولأن ديغول عليم بديناميكية حركات التحرر الوطني، فقد أضاف أن إسرائيل بدأت «تنشئ في الأراضي التي استولت عليها نظام الاحتلال الذي لا يمكن أن يقوم بدون قهر وقمع وترحيل، بينما بدأت تظهر ضدها المقاومة التي تسميها هي إرهابا».
كان هذا هو الموقف الرسمي الغربي الوحيد غير المُمالئ لإسرائيل والمتفطن، بفضل عمق فهم للسياسة وللتاريخ، إلى رغباتها التوسعية الجامحة وممارساتها القهرية القمعية ورطانتها المبرمجة سلفا عن الإرهاب والتخريب.
الموقف الفرنسي البريطاني الكندي الجديد، وما تبعه من نظر الاتحاد الأوروبي في احتمال إلغاء اتفاقيات الشراكة مع إسرائيل، يمثل نقلة نوعية في مجال التعامل الأوروبي مع دولة الاحتلال
ولتقدير الموقف، لا بد من تذكّر مدى تعاطف كل من الشعب والنخبة في فرنسا مع الكيان الصهيوني، حيث تكاثرت آنذاك في مختلف المدن الفرنسية مظاهرات التأييد بقيادة كبار شخصيات السياسة والثقافة والفن، وأخذت كثير من الصحف تزعم منذ أواخر مايو أن مصر هي التي تتأهب للعدوان. بل إن جريدة فرانس ـ سوار نشرت يوم 5 يونيو على صدر الصفحة الأولى عنوانا يصرخ: «المصريون يهاجمون إسرائيل»!!! وكأن هذا لا يكفي، فإذا بعنوان جريدة لوبوبيلار اليسارية يمضي في مد حبل الكذب إلى حد الزعم بأن «إسرائيل تقاوم حتى النصر رغم تعرضها للهجمات من كل صوب».
ومنذ 1967 ظل هذا الموقف الديغولي اليتيم سابقة لا مثيل لها ولا لاحق في الغرب حتى استجمع إيمانويل ماكرون وكير ستارمر ومارك كارني قبل أيام بعضا من حياء من إزمان العجز العالمي أمام جرائم إسرائيل فأعلنوا ضدها موقفا نادرا يتسم بشدة لهجة التنديد المقترن بالتهديد باتخاذ إجراءات عملية. صحيح أن لهذا الموقف خلفية: حيث قال ماكرون يوم 13 مايو إن ما تفعله حكومة نتنياهو في غزة غير مقبول، بل إنه لَخزي. فإذا بالصحافي الفذ أدوي بلينيل يخاطبه موبّخا: بل إن الخزي هو في طول صمتك أنت على ما تقترفه إسرائيل!
ولكن الصحيح أيضا أن الموقف الفرنسي البريطاني الكندي الجديد، وما تبعه من نظر الاتحاد الأوروبي في احتمال إلغاء اتفاقيات الشراكة مع إسرائيل، يمثل نقلة نوعية في مجال التعامل الأوروبي مع دولة الاحتلال. وكان يمكن لانتقاص بعض العرب من أهمية هذا الموقف الأوروبي أن يكون مفهوما لو أن الدول العربية بذلت الوسع في مجال اتخاذ المواقف السياسية والاقتصادية (ولن نقول العسكرية، لأن جميع هذه الدول أسقطت خيار السلاح منذ عقود متناسية أن تكرار الكلام عن السلام من منطلق الضعف، بدون أدنى حد من الردع، لا يضمن لها إلا ذل التبعية وهوان الشأن) الكفيلة بوضع العالم الغربي كله على بيّنة من أنه سيدفع ثمنا باهظا جزاء نكرانه لحقوق الشعب الفلسطيني.
إلا أن الحقيقة أن أول من خذل هذا الشعب الأبيّ هم «إخوته» العرب والمسلمون الذين عقد أثرياؤهم صفقات بمئات مليارات الدولارات مع السمسار الأمريكي ولم يخطر ببالهم أن اشتراط كل هذه الصفقات والهدايا الخيالية، التي لا سابق لها في تاريخ العلاقات الدولية، بأهون المطالب: أي مجرد الكف عن التقتيل والتجويع.
كاتب من تونس