الصحافه

هآرتس: لماذا يصعب على ترامب تنفيذ “نموذجه السوري” في لبنان؟

هآرتس: لماذا يصعب على ترامب تنفيذ “نموذجه السوري” في لبنان؟

 كان خطاباً ساخناً، صاغ فيه ترامب الأيديولوجيا التي ستوجه استخدام قوة أمريكا العسكرية، والاستراتيجية المترتبة عليها. “تم خلال عشرات السنين، إرسال جنودنا إلى حملات صليبية في دول لم ترغب في إقامة علاقات معنا، من قبل زعماء لا فكرة لهم عن البلاد البعيدة، وأساءوا استخدام جنودنا في محاولات أيديولوجية هنا وهناك… أخضعوا قواتنا المسلحة لكل أنواع المشاريع الاجتماعية والذرائع السياسية، وتركوا حدودنا بدون حماية وأفرغوا ترسانتنا لشن الحروب على دول أخرى. حاربنا من أجل حدود ثلاث دول أخرى، ولكن ليس من أجل حدودنا”، هكذا انتقد ترامب في احتفال إنهاء دورة للضباط، أقيم يوم السبت في ويست بوينت.

رؤية ترامب هذه ليست بجديدة ولا ثورية، بل ظهرت في ولايته الأولى عندما أعلن في 2019 عن نية سحب القوات الأمريكية من سوريا (لا شيء سوى الرمال هناك)، وعندما وقع مع طالبان على اتفاق لانسحاب جزئي للقوات من أفغانستان. في الفترة الأخيرة، تم تطبيق هذه الأيديولوجيا مرة أخرى عندما أعلن عن وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين، وهكذا اعتبر الحرب في البحر الأحمر غير متعلقة بالأمريكيين. إذا كانت إسرائيل أو أي دولة أخرى تريد مواصلة الحرب فلتتفضل وتفعل ذلك بنفسها.

بعد فترة قصيرة، طرح ترامب مشهداً آخر لهذه الرؤية عندما قرر الالتقاء مع أحمد الشرع ومصافحته ورفع معظم العقوبات عن سوريا، رغم أن المنظمة التي يترأسها الشرع، هيئة تحرير الشام، ما زالت تعتبر منظمة ارهابية. نموذج سوريا قد يعطي مؤشراً على ما يمكن توقعه.

في آذار، عرضت الإدارة الأمريكية على الشرع عدة طلبات، وعليه تنفيذها كشرط لرفع العقوبات، كما طلب منه محاربة الإرهاب وإبعاد المحاربين الأجانب وتدمير مخزون السلاح الكيميائي وتحمل المسؤولية عن إدارة معسكرات الاعتقال لأعضاء داعش وعائلاتهم، والانضمام إلى اتفاقات إبراهيم. هذه الشروط لا تشمل إقامة نظام ديمقراطي واحترام حقوق الإنسان والمساواة في مكانة المرأة وكل البنود الأخرى التي هي بلغة ترامب “تتناول تجارب اجتماعية”. تعهد الشرع بتنفيذ كل هذه الشروط، ومنها الانضمام إلى اتفاقات إبراهيم “عندما تنضج الظروف”. ولكن أي طلب تم تنفيذه حتى الآن. ولكن خلافاً لموقف إسرائيل، تم رفع معظم العقوبات الأسبوع الماضي. البنك المركزي السوري يمكنه الانضمام إلى منظومة المقاصة الدولية “سويفت”، وبمقدور الشركات الأجنبية البدء في الاستثمار في سوريا بلا خوف من معاقبة أمريكية أو أوروبية، بعد أن قرر الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات أيضاً.

منذ كانون الأول، حصلت سوريا على مساعدة اقتصادية محدودة، بالأساس من السعودية وقطر وتركيا، استهدفت تمويل النشاطات الجارية. من الآن فصاعداً، يمكنها تجنيد مليارات الدولارات للبدء في إعادة بناء نفسها وإعادة ملايين السوريين إلى بيوتهم. عملياً، حتى قبل رفع العقوبات، وقع نظام الشرع على اتفاقات مع شركات أجنبية، من بينها الاتفاق على إدارة وتطوير ميناء طرطوس، الذي وقع مع شركة “دبي بورتس” (التي تنافست قبل أربع سنوات على إدارة ميناء حيفا مع شركة السفن الإسرائيلية)، والاتفاق مع شركة سي.ام.ايه – سي.جي.ام الفرنسية على تطوير ميناء اللاذقية. هذه الشركة، التي هي الشركة الثالثة الأكبر في العالم، يمتلكها الملياردير الفرنسي من أصل لبنان رودلف سعادة، وهو صديق مقرب لترامب. وقد تعهد أيضاً باستثمار 20 مليار دولار في تطوير أسطول السفن الأمريكية.

 المهم والأصل في نموذج سوريا، الذي خلقه ترامب برفعه العقوبات، استناداً إلى تعهد مستقبلي للشرع، يكمن في نقل المسؤولية عن “سلوك الرئيس السوري المناسب” إلى رعاية السعودية وقطر وتركيا. هكذا حرر ترامب نفسه، ظاهرياً، من الانشغال بـ “دولة بعيدة” أخرى، التي لا تهدد حدود الولايات المتحدة. ولأن سوريا ما زالت دولة “مشبوهة” وبؤرة احتكاك خطيرة مع إسرائيل، فربما تتطور فيها مواجهة عنيفة تجر الولايات المتحدة وتعيدها إلى الساحة.

يطمح ترامب إلى التوصل إلى “تسوية” مشابهة مع لبنان أيضاً. للوهلة الأولى، قام نظام جديد برئاسة جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، وهو نظام بحاجة إلى عشرات مليارات الدولارات لترميم أنقاض الحرب والخروج من الأزمة الاقتصادية. مثل القيادة السورية، وضع لبنان أيضاً سيطرة الدولة على كل القوات المسلحة كمبدأ أساسي. وحسب هذا المبدأ الذي تم وضعه أيضاً في اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، فإن لبنان ملزم بنزع سلاح جميع المليشيات المسلحة، بما في ذلك حزب الله والتنظيمات الفلسطينية.

النظام في لبنان الذي استكمل السبت جولات انتخابية للسلطات المحلية، بتأخير ثلاث سنوات تقريباً، وطرح إنجازاً سياسياً وإدارياً، هو اليوم في معضلة تشبه معضلة نظام الشرع: كيف ينزع السلاح غير القانوني بدون الوصول إلى مواجهة عنيفة قد تتدهور إلى حرب أهلية. بخصوص نزع سلاح الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين وخارجها، تم التوصل إلى اتفاق مبدئي في اللقاء بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في لبنان الأسبوع الماضي، وعون وسلام ورئيس البرلمان نبيه بري، الذي يدير ما يسمى في لبنان “الثنائي الشيعي”، الذي يشمل حركة أمل وحزب الله، وبلورة اتفاق حول نزع سلاح الفلسطينيين. لكن العبوة الموقوتة تكمن في نزع سلاح حزب الله. الولايات المتحدة تضغط على عون للبدء على الفور بنزع السلاح من شمال الليطاني وليس من جنوبه فقط. ولكن عون يخشى من أن إجراء عنيفاً جداً سيفيد حزب الله ويجعل الدولة ساحة قتال داخلية. هو يفضل حواراً يثمر اتفاقات، في حين أن الولايات المتحدة تعتقد أن عون لا يمكنه ضمان نجاح هذا الحوار في إنهاء قضية حزب الله كتنظيم عسكري.

وهنا أيضاً عدة فروقات جوهرية بين الوضع في سوريا والوضع في لبنان. وهي فروقات تضع لبنان في مكان متدن نسبياً عن مكانة سوريا، البارز من بينها أنه لا توجد للبنان حلقة من الدول الأبوية المستعدة لتقديم ضمانات بأنها ستنفذ شروط الولايات المتحدة. السعودية والإمارات تعهدتا بالمساعدة في إعادة إعمار لبنان، وقطر ستضاعف هذه السنة مبلغ المساعدة السنوية التي تحولها للجيش اللبناني، من 60 مليون دولار إلى 120 مليون دولار. ولكن خلافاً لسوريا، التي حصل رئيسها على الشرعية الكاملة مسبقاً، فإن أي دولة عربية لم تعرض على ترامب ضمان سلوك الحكومة اللبنانية أمام حزب الله، أو أنها ستنفذ الإصلاحات الاقتصادية العميقة التي يجب عليها تنفيذها كشرط لتقديم المساعدات.

وحتى يستطيع ترامب التحرر من عبء لبنان، كما هو ينفصل عن سوريا، بصورة تضمن عدم حدوث مواجهة عنيفة تهدد إسرائيل أو تورط الولايات المتحدة، فعليه أن يقرر إذا كان سيطبق نموذج سوريا في لبنان، وإعطاء حكومتها الاعتماد الذي منحه للشرع؛ أي السماح لها بإدارة الحوار مع حزب الله كلما احتاجت لذلك، أو استخدام ثقل المكبس والمخاطرة بفقدان السيطرة. وثمة احتمالية ثالثة، وهي إدارة الظهر وترك لبنان يدير شؤونه مع إسرائيل كساحة محلية لا تتعلق بالولايات المتحدة.

السياسة التي تبناها ترامب فيما يتعلق بسوريا وطريقة تصرفه مع لبنان ربما تدل على استراتيجية متوقعة مع إيران. هل سيضع الحرب ضد إيران في قاموس الحروب المناسب خوضها للدفاع عن الولايات المتحدة، أم ستكون حرب أخرى لـ “دول أخرى” لا صلة لها بالأمريكيين، حتى لو قررت إسرائيل شنها. حتى الآن، أكد ترامب أن خطه الأحمر هو في قدرة إيران على الحصول على السلاح النووي، وقد أظهر استعداده لفتح “باب جهنم”. وهو لم يتعهد بالقتال في حرب إسرائيل.

تسفي برئيل

 هآرتس 26/5/2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب