
كان يجب أن يبقى أحد ليحكي عن البيت

مريم مشتاوي
في غزة، لا وقت لتأمل الغروب، ولا فرصة للوداع الأخير. حين تخرج الأم صباحاً، تظن أنّ العودة أمر بديهي، وأنّ الأصوات التي تملأ البيت تنتظرها كما كانت دائماً. هكذا خرجت آلاء النجار، بثوب الطبيبة، تحمل حقيبة صغيرة ومعطفاً أبيض، وتركت خلفها تسعة أطفال ينامون بأمان الأمومة، وزوجاً يحبّها.
غادرت نحو المستشفى، نحو الوجع المعتاد الذي ألفته أكثر من زينة الأعياد. كانت تعرف أن الحياة في غزة هشّة، أن الهواء مثقوب بالقذائف، وأنّ الليل لا يشبه الليل، لكنّها لم تكن تعرف أن النار ستسبقها إلى بيتها، أن الطفولة ستختطف في لحظة، وأن اسمها سيتحوّل إلى قصيدة منقوشة بدم.
في الساعة نفسها، التي لامست فيها سماعة الطبيب صدر مريض في الطوارئ، اخترق صاروخ السماء الأرض. سقط فوق البيت الذي ضمّ أحلامها الصغيرة. لم يترك شيئاً يبكى عليه، ولا أحداً ليسعف. اختفت الألعاب، الأسرة، القصص المبعثرة، رائحة الخبز، حتى جدران الذاكرة تفحمت.
تسعة أطفال احترقوا! لم يتبقّ منهم سوى الأسماء. وربما صورة على هاتف لا يزال يعمل.
آلاء، لم تصل إلى هناك بجسدها، وصلت بروحها المفجوعة.
وقفت أمام الحطام، ثم انحنت كأنها تبحث عن قلبها بين الرماد.
ما من أم تستوعب أن جسد صغيرها صار رماداً، أن كل الأحضان التي ادخرتها لأيام التعب تبعثرت في الهواء.
المسعفون أخبروها أن زوجها الطبيب نقل حيّاً، لكن حالته حرجة.
أخبروها أيضاً أن أحد أبنائها نزع من بين النيران، وما زال قلبه يخفق، لكن على حافة الحياة.
أي حياة تلك التي تبقيك على حافة كل شيء؟!
أي أم يمكن أن تحمل وجعاً بهذا الحجم وتمشي؟!
لم تصرخ آلاء، لم تنهر، لم تتكلم كثيراً.
ظلت واقفة، كتلك الشجرة التي تحترق جذورها، لكنها ترفض السقوط.
كل من رآها شعر بالعجز أمام صمتها.
الوجع الذي لا يقال ينهش أكثر.
من يستطيع أن يواسي أماً دفنت تسعة؟
من يجرؤ على لمس كتفها دون أن يتفتت؟
في المساء، عادت إلى المستشفى، لا لتعمل، بل لتبحث عن زوجها وابنها.
في غرفة العناية، رأتهما، جسدين مشبوكين بالأنابيب، وجوه غائبة، وقلبان يخيمان بين الرحيل والانتظار.
اقتربت، همست باسم زوجها، أمسكت بيد ابنها.
قالت لهما بصوت خافت: «أنا هنا…».
في الصور، وجهها صار مرآة لفلسطين: صبر منهك، دمعة لا تسقط، وجرح مفتوح على كل العالم.
لم يزرها أحد ليعزي، لأن لا كلمات تعزّي.
الناس كانوا يمرّون قربها خائفين من كبر المصيبة.
اللغة لا تليق بهذا النوع من الخسارة.
القصائد تنكسر، والمواساة تفقد معناها.
جلست تلك الليلة وحيدة. البيت لم يعد هناك. الضوء الذي كان يسرّب دفئه من تحت الباب صار رماداً. الضجيج الذي كانت تتضايق منه أحياناً صار أمنية.
صرخة رضيع، ضحكة مراهق، شجار صغير على لعبة، كلها مشاهد تمشي الآن في ذاكرتها كأطياف لا تحتمل.
آلاء النجار لم تهزم.
هزيمتها كانت أن تبقى.
أن تعيش بعد كلّ هذا.
أن تلقي نظرة على سرير فارغ وتتنفّس.
أن تمشي على الطريق نفسه دون أن تمسك يداً صغيرة تسألها: «متى نصل»؟
غزة تشهد أن أماً احترقت ألف مرة ولم تصرخ.
الكون يشهد أن قلباً ظلّ نابضاً، رغم أن تسعة منه رحلوا.
والتاريخ سيسجّل أن امرأة وقفت على حدود الموت والحياة، وفاوضت الله بالدمع.. لا بالكلام.
هذه ليست قصة بكاء.
هذه قصة من ظلّت واقفة في وجه العدم، لأن أحداً كان يجب أن يبقى ليخبر العالم أن بيتاً كان هنا، وأن تسعة أرواح نامت ذات مساء، ولم تستيقظ.
هادي بدران: البطل الراحل
كان يمكن لهادي أن يعتذر.
كان يمكنه أن يقول: «أنا مريض، دعوا غيري يذهب».
كان يملك ألف سبب للبقاء.
لكن قلبه لم يعرف أبداً كيف ينجو بينما غيره يهلك.
في لندن، عرف الأطباء أن السرطان استوطن جسده بالكامل.
مرحلة رابعة.
العلاج الكيميائي ينهش فيه ببطء، لكنه لم يكن يشتكي.
حين كانت الآلة تسحب دمه وتعيده مثقلاً، كانت عيناه تنظران بعيداً، نحو غزة.
في ذروة العدوان، حين تكدّست الجثث في الأزقة، وامتلأت المستشفيات بالأنين، نادت غزة أبناءها.
لم تسمّه بالاسم، لكنه سمع. ردّ كما يفعل الأحرار: أنا قادم.
في المطار، لم يظهر التقارير.
لم يقل لهم إن قلبه يتعب من نصف صعود.
لم يتوسلهم أن يرحموه. بل توسلهم أن يسمحوا له أن ينزل معهم على أرض غزة.
وصل. ارتدى الزيّ الطبي، دخل غرفة العمليات، نسي كل شيء.
نسي مرضه، نسي جسده، نسي لندن التي ينتظره فيها سريره الأبيض.
كان يركض من جريحٍ إلى آخر، من رئة مشقوقة إلى ذراع مبتورة، من صراخ إلى صمت.
في كل غرفة، كان هناك شهيد.
وفي كل سرير، كان هناك من ينتظر معجزة.
هادي… لم يكن طبيباً فحسب، كان لمسة أب، وكان ضوءاً، وكان رجاءً يمشي على قدمين.
كان يعمل بلا توقف، يخلع قفازاته ليبدلها في كل خمس دقائق،
يركع على ركبتيه ليقيس ضغط طفل لا يعرف اسمه، ويهمس لكل من حوله: دماؤنا ليست أغلى من دمائهم.
لم يكن الناس يعرفون مرضه. لم يخبر أحدًا، إلا من رآه ذات مساء يرتجف قليلًا بعد عملية دامت خمس ساعات.
سألوه: أنت بخير؟
أجاب بابتسامة: نعم، فقط قليل من التعب.
كان الوقت يمضي سريعاً.
والموت أسرع. وكان هو يبطئه ما استطاع، يصر على أن هناك دائماً من يجب أن ينقذ.
ثم… انتهى. أعادوه إلى لندن.
الجسد، الذي قاوم الصواريخ والدم، لم يقاوم السرطان بعدها.
كأنّه حين غادر غزة، أخذت روحه جزءاً منها، وكأن غزة كانت ميدانه الأخير، ووصيّته الصامتة.
مات بعد أيام قليلة من عودته. هدأ قلبه، بعد أن أنهى ما بدأه. رحل، لكن بقي وجهه في كل غرفة عمليات، في كل طفل استعاد حياته، في كل مريض فتح عينيه وقال: شكراً.
هادي بدران.. لم يذهب كي يعيش، ذهب كي لا يموت غيره.
كاتبة لبنانيّة