
رواية «الشيخ الأحمر»: عن أسلافنا الأكثر سعادة منا

حسن داوود
عاد الشيخ عبد الحسين من دراسته في النجف مولعا بالفلسفة. لم يرق ذلك للشيخ الذي سبقه إلى إمامة البلدة، إذ بدا ذلك أقرب إلى تغليب مفاهيم أرضية على كلام الله. لكن الشيخ الجديد، الأحمر، كما يقول عنوان الرواية، لقي ترحيبا من شباب البلدة، الذين على الأغلب، لم يتلقّوا من العلم إلا ما كان يدرّسه لهم مشايخ القرى والبلدات. لم يكن ممكنا لهؤلاء أن يقرأوا من خارج ما يتاح لهم. كان زمنهم سابقا على إمكان ذلك، إذ كانوا ما يزالون في كنف السلطنة العثمانية، وهو الزمن الذي أرجع الكاتب حكايته إليه.
وكان العالم ضيّقا آنذاك إذ لا خيارات تتنازع الشباب حيال مستقبلهم. في الرواية لا وجاهة اجتماعية أو شخصية، إلا بوصول أحدهم إلى أن يكون ضابطا في الجيش العثماني. فقط واحد من شخصيات الرواية أتيح له ذلك، وكان تركي الأصل والمولد. لا خيارات إذن أمام هؤلاء الذين لن يغادروا أمكنة ولادتهم. لذلك حفزّهم مجيء الشيخ حسين على التعلّق بالجديد الذي حمله معه. ولم يكن ذلك إلا عابرا على أي حال، إذ لم تكن المسالك مفتوحة لهم للخوض في ذلك العلم، ثم إن ملهمهم نفسه، الشيخ حسين، لم تلبث حياته في البلدة (جباع) أن حوّلته عما جاء حاملا إياه من النجف، غارقا في التنقل بين النساء، الفاقدات أزواجهن على الخصوص.
ولم يكن ذلك يعدّ خيانة أو فسوقا، فجريا على أعراف سائدة، كان ذلك التنقل بين النساء صيانة لأعراضهن من احتمال الوقوع في الفساد والزنى. أما الزوجة القابعة في البيت، فلن يمسّ مكانتها تنقل زوجها بين العشيقات، طالما أن ما يفعله جزء من مهامه. كما لن يضير الزوجة «خديجة» أن تأتي العشيقة الأولى «الحاجة نظام» لتقيم في منزلها، حاصلة على حصّتها من مشاركة الزوج حياته. كما أنها، هي الحاجة نظام، لن يضيرها أن تُضاف عشيقة أخرى إليها هي وجيهة، الطويلة الحسناء والأم لعدة أولاد. وهاتان المرأتان، بدورهما، لن تتذمرا ولن تحتجا على مغامرات الشيخ مع مطلّقات أخريات، لم يجر ذكر أسمائهن في الرواية.
ربما كان تقدم الزمن قد خفّف من تصديق ذاك العرف، الذي كما تقول الرواية، كان شديد الرسوخ في ذلك الزمن. وهو زمن ممتدّ لم تتعين حقبه رغم دوامه قرونا كثيرة. ثم لا إشارات تدلّ على ذلك الجزء منه، كأن يُروى، ربطا بحكاية الشيخ هذه، عن مواجهة جرت بين فريقين أو طائفتين من رعايا السلطنة. كان زمنا بلا أوصاف إذن، وبالنسبة للشيخ حسين كان فيه كما لو أنه يعيش في جنته الخاصة، يقول ما يدور في خاطره ويفعل ما يحلو له قوله، من دون أن يلقى معارضة من أحد. لم يفعل الشيخ الذي أتى من العراق إلا محاورته، في ما خصّ ميله إلى الفلسفة. ولم يكن في مجتمع الضيعة من يعارضه. ولم تحقد عليه النساء بعد انصرافه عنهن، أو بعد إضافة عشيقات جديدات إليهن. كلهن متفهمات. وبعد وفاة زوجته خديجة، بدأ اقترابه من شقيقتها «عاصمة» كان ذلك بتوصية منها. كما لم تُبد العشيقتان المكرستان، الحاجة نظام ووجيهة، اعتراضا على حلول عاصمة محلّهن، بل هما برّرتا ذلك له، بل إن كبراهما أقرت بأن حلول الشقيقة زوجةً بعد رحيل أختها هو أفضل الحلول الممكنة لأحوال المقيمين في البيت.
لا تنازع ولا حقد ولا كراهية. الكل قابل ومطواع لما تقره الأعراف المستندة إلى تفاسيرللشريعة، وإلى ذلك هناك رضى بحكم الحاكم الذي يروي السابقون عن قسوته وغلظته، الكل راض إذن، وحرّ في أن يفعل ما يشاء.
هي رواية عن زمن مضى، لكن في مكان في جنوب لبنان جرت تسميته. ذلك ما يدفع القارئ الى الظنّ ان الكاتب يروي عن حكاية سمعها، وهي حكاية عائلية جرى توارثها، مرفقة بما اعتقده أهل ذلك الزمن من تصديق للأعراف، لكن مع ذلك يبقى هؤلاء السابقون أكثر سعادة من الذين جاؤوا من بعدهم، لأنهم كانوا أقل تضييقا على أنفسهم وأكثر ميلا إلى غضّ النظر.
«الشيخ الأحمر» رواية صغيرة (نوفيلا) لعباس بيضون صدرت عن دار الشروق المصرية في135 صفحة سنة 2024.
كاتب لبناني