
وتظهر إيران

د. ابتهال الخطيب
حرب انتهب بسرعة ما بدأت، حرب حصدت أرواحاً ودمرت بنى وزرعت رعباً ورسخت شكوكاً، كل ذلك حتى تتمكن الحكومات من إرسال رسائل وصنع مواقف وتثبيت قوى ومكانة. لا تخدعنك حكومة أو ساستها، ليس لأحد فينا ثمن، ليس لمصلحة الشعوب أو الأرض قيمة حقيقية في القرار السياسي، ما يهم هو الكرسي والسلطة والقوى وخيرات الأرض، كلها مكفولة للساسة الأقوياء، يعمل على تأمينها الطبقات المتوسطة فما أسفلها؛ ليلقموها في أفواه الساسة والتجار، ثم يلتقموا هم الكفاف، فضلة هؤلاء التي عفوا عنها وزهدوا فيها.
بلا شك، كانت إيران المستفيد الأكبر من هذه الحرب من حيث صنع مكانة عالمية وإثبات قوى دولية، وبلا شك بدت إسرائيل مهزوزة قبيحة الضعف، وساستها يكذبون علناً «ليتجملوا» وصولاً بهم لأن يُوَبخوا علناً من قبل حليفتهم وربة نعمتهم أمريكا، وبلا شك بدت أمريكا أرض جنون ومجون بما يفعل ترامب وبما يصرح. هذا الترامب الناظر لفترة رئاسة ثالثة، لو فعلاً استطاع «كروتة» النظام الديموقراطي الأمريكي للحصول عليها، فلربما ستكون على يديه بداية نهاية أمريكا، الحلم الذي لم يتحقق بعد، ستكون تلك بداية تأسيس «جلياد»، هذا البلد الدستوبي الذي يتنبأ به مسلسل The Handmaid’s Tale.
الحقيقة أنه لا يوجد شريف في هذه الحرب، يوجد من هو «أهون» من غيره، لكن لا يوجد شريف حقيقي، لا توجد حكومة مناضلة فعلية من أجل الحق ومن أجل إنهاء احتلال. وإلا، كيف تتوقف حرب «رسائل القنابل» تلك في غضون أيام بينما يستمر القصف المتوحش على غزة بلا هوادة دون أن يتدخل أي طرف، وأهمهم إيران، بما أنها تحمل «راية الحق والشجاعة» في هذه الحرب، لإيقاف هذا القصف الدنيء ولإدخال شيء من المساعدات؟ لماذا لا توجد مساع حقيقية عربية وعالمية للضغط لفتح المعبر «العربي» الذي يمكنه أن ينقذ أرواحاً ويفك حصاراً وينفس عن أزمة لو أن بابه توارب بعض الشيء؟
أعلم أن الأسى منا وفينا، أفهم أن العتب على إيران ناقص فارغ؛ لأننا حقيقة لا نملك استعراض عضلات النقد والتوبيخ سوى لهذه الدولة، في حين أن الأولى به هم هؤلاء الأقربون، ولكن بما أن لا حيلة في اليد سوى الحيلة «الفارسية»، فها نحن نعاتب، والخزي يرتسم صوراً على وجوهنا، أن لِم لَم تأخذوا موقفاً أقوى أو تستمروا في التهديد إلى أن يتوقف القصف على غزة؟ لماذا لم تكن غزة عاملاً مؤثراً في إيقاف حرب رسائل القنابل إذا كانت هي العامل المؤثر في بدئها؟
الحقيقة أن الموقف الإيراني تجاه التعنت الأمريكي يثير الإعجاب بلا شك، وهو موقف يستثير مقارنة مستحقة بين حضارة عمرها ستة آلاف سنة بكل ما بنيت عليه من علوم وكل ما توطدت به من حكمة مرور الزمن وتكاثف التجارب والحروب والمكائد ومخططات صد تلك المكائد، وبين حضارة مستحدثة، مثلها مثل محدثي النعمة، تستعرض عضلاتها الخاوية وتبعثر أموالها الجديدة بلا منطق أو تفكير، حضارة ليس لها ماض حربي يعلمها، ولا إرث علمي تتزن به رؤوس عسكرها، ولا حتى رئيس حالي له منطق ينقذها. حضارة بنيت على منطق استعلائي، مرة أخرى مثلها مثل الأغنياء الجدد، أن نحن أصحاب الفكر ونحن من صنع الديموقراطية، ومثلها مثل المتدينين الأصوليين، أن تلك هي إرادة الله أن نقود نحن العالم نحو الديموقراطية والخلاص. ويا للغرابة حين، باسم نشر الديموقراطية وتحرير الشعوب، يقسم الأوربيون ومن بعدهم الأمريكان شعوب العالم وأراضيها إلى دويلات على مقاس مصالحها، ثم يضعون على رؤوس شعوبها أنظمة دكتاتورية تأكلها من الداخل وترميها قرابين عند أقدام الأسياد، ثم يتمادون أكثر معتقدين أن سلوك العصابات هذا لا يرده أحد. وذلك إلى أن تظهر إيران…
بلا شك، إن العناد الإيراني فضح الخواء الأمريكي وكسر فكرة الجبروت المرعب الذي لا يُهزم، ولكن لم توقف العناد عند حدود غزة؟ لماذا لم يستمر الموقف الإيراني في احتدامه لحين توقف إسرائيل الصهيونية عن القصف؟ سؤال ساذج بلا شك، لكنه تحت هذا الظرف غير المسبوق، مستحق. بلا شك، إيران تبحث عن مصلحتها واستقرارها وسلامة أراضيها. وبلا شك، الشعب الإيراني دفع الثمن غالياً من أرواح ومنشآت وشعور بالأمن والسلام، ولكنكم أخذتم هذه الخطوات، ذهبتم إلى هذا الحد في حرب خطرة مرعبة، لماذا التوقف قبل -على الأقل- إعلان هدنة حقيقية في غزة؟ وماذا بعد حرب الثلاثة أيام هذه بالنسبة لغزة؟ أي فائدة عادت على الوضع الفلسطيني، وأي صد تحقق للموقف الإجرامي الإسرائيلي؟
يا حيل الله، لا نستطيع أن نطالب من هم منا وفينا باتخاذ موقف. إذا وقف المصريون جموداً أمام رجاءات وتوسلات النشطاء الإنسانيين «الأجانب» الذين حاولوا العبور لغزة لإيصال مساعدات، إذا تجمدت القلوب وأغلقت الأقفال ورفعت الصحف عن المنفذ الوحيد الذي هو في يد عربية، والتي هي لدولة عربية كبرى، فأي أمل بقي لنا؟ ولمن نشكي وبمن نستغيث؟
الجواب إيران. ومن يرى في ذلك صفوية مختبئة أو تشيعاً متمدداً أو نسياناً متعمداً لجرائم سابقة أو سذاجة في فهم السياسة الإيرانية، أو استسلاماً لحكومة ثيوقراطية، نقول له نرجو المغفرة ونطلب البديل، أعندك آخرون نستغيث بهم؟