
حبل مشدود بين البقاء والسيادة: الحكومة السورية في مواجهة ضغوط التطبيع

منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام بشار الأسد وتولِّي الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع زمام الحكم، سارعت “إسرائيل” إلى اتخاذ سلسلة خطوات عدائية، بدأت بإعلان صريح عن انهيار اتفاق “فك الاشتباك” الموقع عام 1974، وتطورت إلى تنفيذ توغلات برية متكررة في المنطقة العازلة، لا سيما في القنيطرة وجبل الشيخ، بذريعة إنشاء حزام أمني يفصل بين الأراضي السورية وهضبة الجولان المحتلة.
بالتوازي، طرحت الولايات المتحدة ملف التطبيع كأحد مداخل “الشرعية الدولية” للنظام الجديد، وكأداة لإعادة إدماجه إقليميًّا ودوليًّا، وقد أكد الرئيس الشرع أن نظيره الأمريكي دونالد ترامب حثَّه على هذا المسار في خلال لقائهما في المملكة السعودية، على هامش الجولة الخليجية لترامب في منتصف مايو/أيار الماضي.
في المقابل، تبدو سياسة الإدارة السورية الجديدة قائمةً على استراتيجية “الاحتواء والانفتاح وتبريد الجبهات”، في ظل حاجة النظام الوليد إلى مساحة لالتقاط الأنفاس، وإعادة بناء مؤسساته وأجهزته بعد انهيار النظام السابق وتركه دولةً منهَكةً ومفكَّكة.
من هنا، يبرز سؤال محوري: إلى أي مدى قد تمتد مرونة النظام السوري الجديد تجاه “إسرائيل”؟ خصوصًا مع تواتر المؤشرات حول وجود قنوات اتصال غير مباشرة وخطوات ميدانية تعزِّز مناخ التهدئة، على الرغم من إنكار الخطاب الرسمي لأي مسار تطبيعي، واكتفائه بالإشارة إلى اتصالات هدفها تفادي التصعيد والاشتباك.
السياسة الإسرائيلية: ما بين فرض الوقائع والدفع نحو التطبيع
تبنَّت “إسرائيل” سياسةً هجوميةً نشطةً تجاه سوريا عقب سقوط نظام الأسد، مستثمِرةً اندفاعتها الإقليمية التي تصاعدت بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وساعية إلى فرض وقائع ميدانية وعسكرية تُمهِّد لمعادلات جديدة في العلاقة مع دمشق، في ظل النظام الناشئ برئاسة أحمد الشرع.
في السياق العسكري، شنَّت “إسرائيل” سلسلة ضربات جوية واسعة استهدفت البنية التحتية العسكرية للجيش السوري، بما في ذلك مخازن أسلحة، وآليات، وقطع بحرية، ومراكز أبحاث، ولم تقتصر الهجمات على تلك الضربات الافتتاحية، بل تواصلت في الأشهر الأخيرة، إذ نفَّذت مقاتلات الاحتلال غارات مكثفة على مواقع في ريف دمشق ودرعا وحماة.

وأعلن جيش الاحتلال أن الغارات استهدفت “مواقع عسكرية، ومدافع مضادة للطائرات، وبنية تحتية لصواريخ أرض-جو”، مؤكدًا عزمه “العمل كلما دعت الحاجة من أجل حماية مواطني إسرائيل”.
على الأرض، لم تمضِ ساعات على إعلان انهيار النظام السابق، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، حتى بدأ الاحتلال أول توغل له في المنطقة العازلة بين سوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة، في خرق صريح لاتفاق “فك الاشتباك” لعام 1974، حيث تمتد هذه المنطقة -المعروفة بخطي “ألفا” و”برافو”- على مساحة 235 كيلومترًا مربعًا من جبل الشيخ شمالًا وحتى الجنوب.
في أقل من أربعة أشهر، أنشأت “إسرائيل” تسع قواعد عسكرية جديدة؛ سبعًا منها داخل المنطقة العازلة واثنتين خارجها، لترفع مساحة السيطرة الفعلية إلى أكثر من 1,400 كيلومتر مربع. وأُرفق ذلك بإعلان وزير الحرب الإسرائيلي رسميًّا تقسيم الجنوب السوري إلى ثلاث مناطق أمنية: منطقة منزوعة القوات، وأخرى بعمق 15 كيلومترًا خالية من التسليح النوعي، وثالثة يُسمَح فيها بوجود الشرطة فقط، ما يعني فعليًّا تحويل الجنوب السوري إلى منطقة منزوعة السيادة.
وفي فبراير/شباط 2025، صعَّد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو من لهجته، مطالبًا بجعل محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء -التي تمتد على أكثر من 11,000 كيلومتر مربع– مناطق منزوعة السلاح بالكامل.
إلى جانب التحركات العسكرية، سعت “إسرائيل” إلى استثمار الورقة الطائفية، وتحديدًا ملف “الأقليات”، في مقاربتها للواقع السوري ما بعد الأسد، فقد شهدت الأسابيع الأخيرة تصعيدًا في هذا المسار.
خصوصًا بعد الغارة الجوية التي استهدفت محيط قصر الشعب في دمشق فجر الثاني من مايو/أيار الجاري، عقب التوترات التي اندلعت في منطقتَي جرمانا وصحنايا، حيث تتركز التجمعات الدرزية، وعدَّ نتنياهو وكاتس أن الغارة “تحمل رسالة واضحة إلى الحكومة السورية”، وأكدا في بيان مشترك أن “إسرائيل لن تسمح بأي تهديد للدروز”.

وفي الإطار السياسي، تحاول “إسرائيل” رسم ملامح العلاقة المنشودة مع النظام الجديد، مستبدلة مفهوم “التطبيع كامتياز سياسي” بمفهوم “التطبيع كضرورة أمنية”؛ أي بوصفه الطريق الأقصر لضمان استقرار الحكم السوري الوليد.
وقد عبَّر نتنياهو عن هذا التوجه صراحةً في أكثر من مناسبة، مؤكدًا أن “الشرق الأوسط يتغير”، وأن “على كل الدول أن تعيد النظر في علاقاتها مع إسرائيل، ومن بينها سوريا ما بعد الأسد”.
خطوات ضبابية واحتمالات مفتوحة
منذ الأسابيع الأولى لتولِّي الإدارة السورية الجديدة الحكم، شكَّل موقفُها من الاعتداءات الإسرائيلية المتصاعدة سؤالًا رئيسيًّا، خصوصًا أن العدوان بدأ بوتيرة متسارعة حتى قبل أن تنجح دمشق في ترتيب أوراق الحكم الأولية.
في المقابل، بدت السلطات السورية في البداية وكأنها تتجاهل تلك الاعتداءات، ثم أصدرت لاحقًا بيانات سياسية محدودة ومقتضبة دعت إلى وقف العدوان، مع تأكيد متكرر لانعدام الرغبة في التصعيد، بل والتشديد في بعض التصريحات على “عدم وجود مبررات للتصعيد”.
هذا الموقف، الذي انطلق من حاجة النظام الناشئ إلى الهدوء كمدخل لإعادة البناء، تجنَّب بعناية إرسال أية رسائل قد تُفهَم على أنها رغبة في الاشتباك، فيما فُسح المجال للحليف التركي للتعبير عن الموقف بأسلوب أكثر حدة.
إذ أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خلال أول زيارة للرئيس الشرع إلى أنقرة بعد رفع العقوبات، أن العدوان الإسرائيلي على الأراضي السورية غير مقبول، وأن تركيا ستواصل معارضته على المنصات كافة.
ترامب يتحدث عن مناقشة ملف تطبيع العلاقات مع الرئيس السوري #أحمد_الشرع من الرياض. pic.twitter.com/HwvIMiDdmr
— نون بوست (@NoonPost) May 14, 2025
بالتوازي، شهدت الأيام التي سبقت رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية حراكًا دبلوماسيًّا أمريكيًّا وعربيًّا لترتيب محدِّدات الانفتاح على النظام السوري الجديد، في سياق مشروط يربط بين “الانفتاح الدولي” وسلوك النظام تجاه ملفات كبرى، بينها العلاقة مع “إسرائيل”.
وفي هذا الإطار، أشار الشرع في خلال لقائه بنظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في قصر الإليزيه في مايو/أيار الجاري، إلى وجود مفاوضات غير مباشرة مع “إسرائيل” عبر وسطاء، بهدف “تهدئة الأوضاع وعدم خروجها عن السيطرة”.
كما كشفت وكالة “رويترز”، نقلًا عن مصادر مطلعة، أن لقاءات مباشرة وجهًا لوجه عُقدت بين مسؤولِين سوريين وإسرائيليين، على الرغم من النفي الرسمي السوري، في مسعى إلى تقليل التوترات ومنع اندلاع صراع واسع في المنطقة الحدودية.
وعلى الرغم من غياب الاعتراف الرسمي، تُلمِّح مؤشرات ميدانية عديدة إلى وجود خطوات فعلية يمكن تصنيفها ضمن مسار “بناء الثقة”، من بينها ما ارتبط باستعادة رفات الجندي الإسرائيلي تسفيكا فيلدمان، إذ أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي و”الموساد” في بيان مشترك أنهما نفَّذا “عملية خاصة في العمق السوري” لاستعادة الرفات، دون توضيح ما إذا كانت ثمة موافقة سورية ضمنية أو مباشرة.
لكن إذاعة الجيش أشارت إلى أن الإدارة السورية الجديدة “لم تشارك” في العملية، دون أن تقدِّم تفاصيل إضافية. في المقابل، ربطت مصادر مطَّلعة بين العملية وتوقيف السلطات السورية لطلال ناجي، الأمين العام للجبهة الشعبية – القيادة العامة، الذي يُعتقد أنه ضمن الدائرة الضيقة التي تملك معلومات حول مكان دفن الجندي، دون أن يصدر تأكيد أو نفي رسمي لهذا الترابط.
وأما قضية استعادة أرشيف الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي أُعدم في دمشق عام 1965، فكانت أكثر وضوحًا. فقد نقل موقع “i24NEWS” الإسرائيلي عن مصدر سوري أن مروحية إسرائيلية هبطت في السويداء بتاريخ 2 مايو/أيار الجاري، ونقلت الأرشيف كـ”لفتة من الرئيس الشرع إلى إسرائيل والولايات المتحدة”.

وأعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أن العملية أسفرت عن استعادة نحو 2,500 وثيقة وصورة ومقتنيات شخصية من أرشيف كوهين، واصفًا العملية بأنها “سرية ومعقَّدة” ونُفِّذَت بتعاون بين “الموساد” وجهة استخباراتية شريكة.
وفي تأكيد إضافي لهذا السيناريو، نقلت “رويترز” عن ثلاثة مصادر -أحدهم مسؤول أمني سوري، والثاني مستشار في القيادة السورية، والثالث مطَّلع على المحادثات السرية– أن تسليم أرشيف كوهين جاء ضمن مبادرة سورية غير مباشرة لـ”بناء الثقة” وفتح قنوات مع إدارة الرئيس ترامب.
وحسب المصادر ذاته، أدرك الرئيس الشرع ومستشاروه أهمية هذه الوثائق بالنسبة إلى “إسرائيل”، وقرروا سريعًا استخدامها كورقة ضغط دبلوماسية، كما نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية أن الحكومة السورية “تدرس إعادة رفات إيلي كوهين”، بينما كشفت “معاريف” العبرية عن محادثات سرية في أذربيجان أكد في خلالها مسؤولون سوريون استعدادهم للبحث عن الرفات، ما عدَّه ممثلو الاحتلال الإسرائيلي “مفاجأة مذهلة” و”بادرة جادة لحسن النية”.
هندسة أمريكية وتنسيقات تركية
يربط كثير من المراقبين بين الخطوات التي تتخذها دمشق – والتي يُنظر إليها كبوادر “انفتاح” أو “بناء ثقة” – من جهة، ورغبة القيادة السورية الجديدة في نيل القبول الأمريكي من جهة أخرى، إذ يُعَدُّ ملف العلاقة مع “إسرائيل” أحد المفاتيح الرئيسية لهذا القبول، في ظل ارتباطه المباشر بقرار رفع العقوبات عن سوريا.
عقب زيارته إلى المملكة السعودية ولقائه بالرئيس السوري، أشاد ترامب بما وصفه “استعداد دمشق للانفتاح”، مؤكدًا أن الشرع أبدى إيجابية تجاه فكرة الانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام”.
من جانبه، نقلت “المجلة اليهودية” -ذات التوجه الصهيوني- عن الرئيس السوري دعوته إلى “إنهاء عصر القصف اللامتناهي”، وتعبيره عن انفتاحه على شراكة أمنية مستقبلية مع “إسرائيل” انطلاقًا من وجود “أعداء مشتركين”.
وفي تصريحات نُسبت إليه في خلال لقائه برجل الأعمال الأمريكي جوناثان باس، قال الشرع: “السلام لا يُبنى على الخوف، بل على الاحترام المتبادل. سنتعاون حيث توجد نية صادقة وطريق واضح للتعايش، وسنتجنب أي مسارات أخرى”. وعلى الرغم من نفي مدير العلاقات العامة بوزارة الإعلام السورية حصول لقاء رسمي مع “المجلة اليهودية”، فقد أكد بالفعل لقاء الشرع بباس، مشيرًا إلى أن الأخير نقل مضمون اللقاء في مقال صحفي.
بدا الاهتمام الأمريكي بملف التطبيع جليًّا من خلال تحركات أعضاء الكونغرس، إذ التقى النائب كوري ميلز بالرئيس السوري في دمشق بتاريخ 18 أبريل/نيسان المنصرم، وأكد أن الشرع أبدى انفتاحًا تجاه تحسين العلاقات مع “إسرائيل”، مشيرًا إلى استعداد دمشق للانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام” عند توفر الظروف المناسبة.
وتكرَّر الموقف ذاته في لقاء لاحق بين النائب مارلين شتوتسمان والشرع في 21 من الشهر ذاته، إذ تحدثت ستوتزمان عن رغبة القيادة السورية في التطبيع، لكنها ربطت ذلك بضمانات تتعلق بسيادة سوريا ووحدة أراضيها.
وفي سياق متصل، أعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في 15 مايو/أيار الجاري “استعداد الحكومة السورية الانتقالية للسلام مع إسرائيل”، وذلك في خلال لقائه نظيره السوري أسعد الشيباني في مدينة أنطاليا التركية، حسب وكالة “فرانس برس”.
وتعكس كل هذه التحركات سعيًا أمريكيًّا واضحًا إلى هندسة توجهات النظام السوري الجديد، باستخدام أدوات الضغط الاقتصادي والانفتاح الدولي كوسائل لتمرير أجندة سياسية محدَّدة، تتقاطع مع المصالح الإسرائيلية، وتُكرِّس تدخلًا مباشرًا في السياسات الداخلية السورية.
مع ذلك، أبدى الرئيس السوري حرصًا على إظهار أن أي تقارب مع “إسرائيل” لا يعني تفريطًا بالثوابت، ففي تصريح له، أوضح أن رغبته هي في العودة إلى اتفاق فصل القوات الموقع عقب حرب أكتوبر/تشرين الثاني 1973 وهدفها الأساسي “حماية أبناء الطائفة الدرزية في الجولان وسوريا”، مؤكدًا أن أمنهم “ليس موضوعًا للتفاوض”. رابطًا هذا المسار بعبارته: “السلام لا يُبنى على الخوف، بل على الاحترام المتبادل”.
ختامًا، وفي ضوء المعطيات المتراكمة، يبدو أن النظام السوري الجديد يسير فوق حبل مشدود بين حاجته العاجلة إلى الانفتاح الدولي وفك العزلة، وبين الحقول الملغومة التي تحيط بأي تقارب مع “إسرائيل”، فبينما تمارس الولايات المتحدة هندسةً ممنهجةً لسلوك النظام من بوابة العقوبات والانفتاح المشروط، تطرح “إسرائيل” نفسها كقناة إجبارية للشرعية، عبر فرض وقائع ميدانية وإشارات سياسية وأمنية مدروسة.
لكن، على الرغم من مؤشرات التهدئة وبوادر بناء الثقة، ما تزال العلاقة محكومةً بجملة من التناقضات البنيوية: فـ”إسرائيل” لا تُبدي استعدادًا لتقديم تنازلات جوهرية مثل وقف العدوان أو الانسحاب من الجولان، فيما يدرك النظام السوري أن التطبيع -في ظل معادلة إذعان- قد ينسف شرعيته الثورية، ويُفجِّر تفاعلات داخلية وإقليمية لا يمكن السيطرة عليها.
في الأخير، فإن المستقبل القريب سيُحدَّد، ليس فقط بمدى تجاوب دمشق مع الضغوط، بل بقدرة النظام الجديد على الموازنة بين ضرورات البقاء ومتطلبات السيادة، في بيئة إقليمية تتغير بسرعة وتُكافئ من يُحسِن التموضع لا من يُقدِّم التنازلات المجانية.
نون بوست