ازدياد أعداد المرتزقة وقود الحروب الأهلية بأفريقيا

ازدياد أعداد المرتزقة وقود الحروب الأهلية بأفريقيا
عبد الله مولود
مواجهة ظاهرة الارتزاق في أفريقيا لم تعد خيارًا، بل ضرورة ملحّة لضمان أمن القارة واستقرارها السياسي والاجتماعي.
نواكشوط ـ : شهدت القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة تصاعدًا مقلقًا في أعداد المرتزقة، الذين أصبحوا وقودًا للحروب الأهلية والنزاعات المسلحة، ومصدرًا لتفاقم الأزمات الإنسانية والأمنية.
وقد باتت هذه الظاهرة، التي تمتد جذورها إلى عقود مضت، تتخذ أشكالًا أكثر تنظيمًا وتمويلًا، ما يهدد سيادة الدول واستقرارها.
وأمام هذا الواقع الخطير، يضاعف الاتحاد الأفريقي جهوده لوضع حد لظاهرة الارتزاق، من خلال مراجعة الأطر القانونية القائمة وتعزيز آليات التعاون الإقليمي والدولي لمكافحتها، وذلك من خلال مشروع اتفاقية مكوّنة من أربعين مادة، إلى جانب موجز سياسات حول مشاركة المرتزقة.
ومن المتوقع أن تشكّل هذه الاتفاقية تحديثًا للاتفاقية المعتمدة سنة 1977، وأن تتضمن أحكامًا لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها المرتزقة، وفرض عقوبات أشد على الدول التي تستخدم مقاتلين أجانب.
وقال بوبوراي توغاريبي، عضو البرلمان الزيمبابوي، خلال مناقشة برلمانية أفريقية في حزيران/يونيو الماضي حول مراجعة الاتفاقية الخاصة بالأنشطة المرتزقة: «علينا أن نتخذ موقفًا للقضاء على هذه الآفة وضمان احترام سيادتنا». كما شدد ممثل ليبيا، سالم مسعود قنان، على ضرورة التركيز على المرتزقة الدوليين الذين يلعبون أدوارًا شديدة التدمير في القارة، قائلاً: «يجب على الدول الأفريقية أن تتحد لجعل هذه المجموعات عاجزة وحماية شعوبها». وتعود الجهود المبذولة للسيطرة على المرتزقة إلى عام 1977، حين أُقرت «اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية للقضاء على الارتزاق في أفريقيا»، والتي دخلت حيز التنفيذ سنة 1985. وحذرت هذه الاتفاقية من «الخطر الجسيم الذي تمثله أنشطة المرتزقة على استقلال الدول الأفريقية وسيادتها ووحدة أراضيها وتنميتها المتوازنة».
وكانت اتفاقية 1077 قد أدانت في حينه ممارسات دول من خارج القارة استعانت بمرتزقة لزعزعة استقرار الحكومات الأفريقية القائمة خدمةً لمصالحها.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي، ظل الارتزاق في أفريقيا محل اعتراض واسع، لكن الحروب الأهلية أدت لاحقًا إلى ظهور مجموعات جديدة تقاتل التمرد أو الحركات المتمردة.
ومن أبرز الأمثلة شركة Executive Outcomes التي تأسست عام 1989 وحاربت في أنغولا عام 1992 ضد حركة «الاتحاد الوطني من أجل استقلال أنغولا» (UNITA)، ثم في سيراليون بين 1995 و1997 ضد متمردي «الجبهة الثورية المتحدة»(RUF)، حيث كانت تتلقى مقابل خدماتها جزءًا من مناجم الألماس.
غير أن الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها مجموعات مرتزقة عديدة أدت إلى تفكيك الشركة وصدور قانون جنوب أفريقي عام 1998 يجرّم الارتزاق ويصفه بأنه «جريمة ضد السلام والأمن»؛ ورغم ذلك، عاد عدد المرتزقة للارتفاع منذ قرابة عقد من الزمن.
وكثيرًا ما يُبرَّر وجود المرتزقة في أفريقيا اليوم بمحاربة الإرهاب وتعزيز «القدرات الدفاعية» للدول، غير أن التجربة أثبتت أن هذه الحلول لا تحسن الوضع الأمني بل إنها تفاقمه. ويُعدّ نموذج مجموعة فاغنر الروسية المثال الأبرز على ذلك، إذ ارتكب مقاتلوها جرائم قتل واغتصاب ونهب وتدمير قرى، فضلًا عن استغلال غير قانوني للموارد الطبيعية كالذهب والألماس.
وعلى الرغم من أن وجودهم الرسمي يُقدَّم على أنه لدعم الدول في مواجهة الإرهاب، إلا أن النتائج على الأرض كشفت عن أثر معاكس تمامًا.
وبعد مقتل مؤسسها يفغيني بريغوجين، أعيدت تسمية المجموعة إلى «فيلق أفريقيا» مع استمرار استخدام اسم فاغنر، وأصبحت تحت إدارة مباشرة من الكرملين، دون أن يتوقف سلوكها القمعي وعمليات النهب.
وكانت الحكومات الأفريقية، إبان الحرب الباردة، تتوجس عمومًا من المرتزقة والمقاتلين الأجانب، لكن النخب الحاكمة الأفريقية تدعوهم اليوم بنشاط وتستخدمهم لتعزيز سلطتها ومكافحة الإرهاب، وهو تحول عن ممارسات الماضي.
وشهدت مالي خلال السنوات الأخيرة ضجة كبرى واحتجاجات واسعة النطاق ضد الوجود العسكري الفرنسي، حيث اعتبر قطاع واسع من الماليين أن هذا الوجود يمثل شكلاً من أشكال الوصاية الجديدة، ويتعارض مع سيادة البلاد وحقها في تقرير مصيرها.
وامتدت موجة الغضب هذه إلى بلدان أفريقية أخرى ناطقة بالفرنسية، لتتحول إلى تيار شعبي يطالب بإنهاء النفوذ الفرنسي في القارة، مدفوعًا بخيبة الأمل من نتائج العمليات العسكرية التي لم تحقق الاستقرار المنشود، وبالرغبة في بناء شراكات أمنية وتنموية بديلة أكثر استقلالية وعدالة.
وإذا كانت سيادة دول القارة مقدسة بالفعل، كما توحي بذلك الاحتجاجات العديدة ضد التدخل العسكري الفرنسي في مالي، القادمة من شتى أنحاء أفريقيا الفرنكوفونية، فربما ينبغي أن نكون مستعدين لدفع ثمن هذه السيادة بأنفسنا؟
فكما قال تشيسترتون: «كل فكرة لا تتحول إلى قول فهي فكرة سيئة، وكل قول لا يتحول إلى فعل فهو قول سيء، وكل فعل لا يتحول إلى ثمرة هو فعل سيء أيضا».
لكن مواجهة ظاهرة الارتزاق في أفريقيا لم تعد خيارًا، بل ضرورة ملحّة لضمان أمن القارة واستقرارها السياسي والاجتماعي؛ فنجاح الاتحاد الأفريقي في القضاء على هذه الممارسات لن يوقف فقط نزيف الحروب الأهلية، بل سيفتح أيضًا المجال أمام مسار تنموي أكثر استقرارًا وعدالة للشعوب الأفريقية. غير أن هذا الهدف لن يتحقق إلا بتضافر الجهود بين الحكومات، والمنظمات الإقليمية، والشركاء الدوليين، من أجل بناء منظومة ردع فعالة تُغلِق أمام المرتزقة أبواب العبث بأمن القارة ومستقبلها.
«القدس العربي»