مقالات

عصر النهضة مقدمة التنوير بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

عصر النهضة مقدمة التنوير
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
في عمل بحثي مهم، قام بتأليفه الباحث تيودور. راب (Theodor, Rab) المختص بعصر النهضة الأوروبية. نجح الباحث بتقديم عمل ممتاز عن تلك المرحلة الهامة ليس في تاريخ أوربا فحسب، بل والحضارة العالمية على حد السواء.
من الضروري إدراك، إن عصر النهضة يعني قبل كل شيئ نهاية مسيرة طويلة قطعها الفكر الأوربي في محاولات لم تتوقف في التجسير بين الفلسفة المزدهرة في أوربا قبل أن تفد المسيحية إليها بما لا يقل عن 600 عام، محاولة تكييف الفلسفة لصالح الدين أو بالعكس (Adaptation) ومن بين هذه المحاولات واشهرها السكولاستية (Schoolstic)، تلك التي صادفت بعض من الاهتمام على يد القس توما الأكويني 1225ـ 1274 (Tommasso d, Aquino).
هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان التقدم الاقتصادي الذي قاد بتراكماته إلى تشكيلات جديدة سياسية / اجتماعية. لا سيما أن السكولاستية كانت انتهت رغم أن الأكويني منحها الكثير، انتهت حيث لم تستطع الحركة أن تواكب أو أن تستوعب حجم الآمال الناهضة المتطلعة إلى الأمام، وبعدها كانت رصاصة الرحمة على ما عرف بسياسة تأييد سلطة البابا (Ultramontis) وعهد الهيمنة الكنسية من خلال الحركة التي قام بها القس الألماني مارتن لوثر، والقس الروسي كوسوي.
وكان هناك من بين مفكري عصر النهضة من يحمل على عصور هيمنة الكنيسة المسيحية لأنها قضت على الفلسفة الإغريقية، ولم تقدم البديل عنها، فمرت أوربا بعصور بربرية، ظلامية. وأن هؤلاء المفكرين كانوا يشعرون بأنهم يولدون من جديد بعد أن خرجوا من ظلاميات الكهنة المسيحيين واكتشفوا آداب الإغريق والرومان وفلسفتهم. وهي آداب كانت القرون الوسطى قد طمستها كلياً تقريباً بحجة أنها وثنية، مادية إلحادية.
أزمة لم تجد طريقها للحل: هي إيجاد سبل التوافق بين الدين والفلسفة. صراع لم يهدأ مطلقاً ولم تنجح محاولات الكنسيين المتنورين من ردم الهوة وحل الإشكالية التي ما برحت تطرح نفسها هكذا:
يتعارض اللاهوت مع البحث العلمي في:
• يقر العلم أن لاشيء يخلق من لا شيء، فيما يقبل الدين بوجود الخالق سبحانه، من لا شيء.
• يقر العلم أن مناقشة كل شيء وأية موضوعة ممكنة، فيما لا يقبل اللاهوت مناقشة وجود الخالق.
• السياسة كعلم يتعامل مع الحياة الواقعية ونتائجها الملموسة، بينما المؤسسة الدينية تهدف لحث الناس على الفوز بالجنة.
• ومن الواضح أن ميكافيلي قد أحاز للعلم والفلسفة في موقفه حيال الكنيسة.
وعندئذ ظهر مصطلح الدراسات الإنسانية معارضة لها بالدراسات اللاهوتية. والدينية المسيحية. وكان المقصود بها الدراسات المتركزة على كبار أدباء وشعراء وفلاسفة العصور القديمة السابقة على المسيحية: كهوميروس، وأفلاطون، وأرسطو، وفرجيل، وشيشرون وعشرات غيرهم.
تلك أفكار وأعمال كانت معروفة منذ القدم في أوربا ولكنها كانت مهملة في العصور الوسطى لأنهم وثنيون، تجرأ مفكرو عصر النهضة واهتموا بهم وجعلوا من اكتشافهم ودراستهم اكبر وتحديث معارفهم والتأسيس فوقها، رسالة لهم في الحياة. ولذلك كان فلاسفة عصر النهضة يشعرون بحق أنهم يطلقون مرحلة جديدة في التاريخ.
ويكتب تيودور راب قائلاً: بعض المؤرخين احتجوا مؤخراً على هذه النظرة التبسيطية للأمور. وقالوا بما معناه: لا يمكن الزعم بان العصور الوسطى كانت ظلامية كلها. فالواقع انه وجد آنذاك بعض المفكرين الكبار المستنيرين بضوء العقل. واكبر دليل على ذلك فلاسفة العرب من أمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن الطفيل، وبن رشد، وابن باجة، وابن عربي، والعربي، وأبي بكر الرازي، الخ.. وكلهم عاشوا في العصور الوسطى بحسب التقسيم الأوروبي لتاريخ الفكر.
ومعلوم أن هذا التقسيم يتحدث عن ثلاثة عصور أساسية: العصور القديمة اليونانية الرومانية (القرن الخامس قبل الميلاد وحتى القرن الخامس بعد الميلاد). العصور الوسطى من عام 500 ميلادية إلى عام 1500 تقريباً. العصور الحديثة من عام 1500 وحتى اليوم.
وبما أن كل فلاسفة العرب المذكورين عاشوا قبل عام 1500 بل وحتى قبل عام 1200 فإن هذا يعني أنهم كلهم ينتمون إلى مرحلة العصور الوسطى. فهل يمكن القول بأنهم كانوا ظلاميين متخلفين أو متعصبين كما توحي به هذه الصورة التبسيطية ؟ بالطبع كلا.
فهم لم يهملوا دراسة الفلسفة اليونانية، على العكس، ولم يهملوا العلم والعقل، على العكس تماماً. وقس على ذلك بعض الفلاسفة المسيحيين الذين ظهروا في أوروبا بعد أن ترجموا أعمالهم وبنوا عليها، فمن المعروف على نطاق واسع، أن أبن رشد هو من عرف الأوربيين على أرسطو، في شرح أعماله، بل وتأسست جامعة في إيطاليا (جامعة بادوفا Badova) للفكر الأرسطوي.
إذن لا يمكن وصف العصور الوسطى بالظلامية بصفة مطلقة، وإنما كانت فيها بعض المنارات، وبقع الضوء. ولكنها بشكل عام لم تكن مستنيرة. فاستنارة بعض العباقرة لا يعني استنارة عموم الشعب. ولكن عودة مفكري عصر النهضة إلى الماضي البعيد، وإلى فلاسفة اليونان والرومان وأدبائهم لا تعني مجرد العودة إلى الوراء ونسيان، الحاضر والمستقبل. فالواقع أنها كانت عودة من أجل التأسيس على ما وضعه الفلاسفة الأولون، فهي بهذا المعنى عودة لتغيير الحاضر أو لتجديد الحياة الحاضرة بكل جوانبها، وفي مقدمة ذلك إعادة ترتيب التحالفات والأصطفافات الاجتماعية / السياسية، وليس فقط فض العلاقة بين المؤسسة الدينية عن مؤسسة الحكم، بل وإنهاء أي دور سياسي مفترض للكنيسة، وهو سيكون مفتاح للتطورات اللاحقة في أوربا، وهنا يكمن جوهر عصر النهضة وحداثته.
والواقع إن التحولات الفكرية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في أوروبا كانت قد سبقتها ثلاث حركات مهدت لعصر النهضة:
الأولى: حركة السولاستية التي اعترفت بأهمية التنوير، ولكنها لم يكن بوسعها أن تستوعب تيارات المستقبل.
الثانية: حركة الإصلاح الديني الذي حصل في النصف الأول من القرن السادس عشر على يد مارتن لوثر، وأقل منها حركة كوسوي في روسيا.
الثالثة: حركة إنسانية نهضوية، تمثلت بانتعاش الآداب القديمة، والفنون، وميل جارف نحو الثقافة والمنجزات العلمية، ومن تلك: الاكتشافات العلمية كوبرنيكوس وغاليلو (1564 ـ 1642) الذي شكل الأسس الراسخة للعلم الحديث، الفيزياء والفلك والرياضيات وغيرهما، وكانت أولى المؤشرات على ظهور عهد جديد للفكر والسلوك انبثقت في ايطاليا منذ نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر. ويمكن أن نضيف إليها الاكتشافات الجغرافية وتحسن الأوضاع الاقتصادية.
وبحق يعتبر نقولا ميكافيلي (1469 ـ 1527) من شهراء عصر النهضة ومن أبرز علاماتها، والذي اشتهر بكتاب: الأمير وهو (برأي الكثيرين من المؤرخين)الذي أسس علم السياسة بالمعنى الحديث للكلمة (أو كانت مساهمته حاسمة). إذ أسس الواقعية السياسية التي خلع اسمه عليها فأصبحت تدعى بالميكافيلية، ولكن الكلمة اتخذت معنى سلبيا في الاستخدام الشائع لأنك عندما تقول عن شخص بأنه ميكافيلي فكأنك تقول بأنه وصولي، انتهازي. ولكن هذا يفتقر في الواقع إلى الدقة، أو بالأحرى ليس كاملاً لأن نظرية ميكافيلي عن السياسة أوسع من ذلك وأكثر تعقيداً، وبرأينا أن مساهمة ميكافيلي في تطور علم السياسة هي مساهمة حاسمة، وهي أبعد من قبول أو السخط على أفكاره، ليس بسبب فصله لعلم السياسة عن علم الأخلاق، وإنما لأنه كرس مصالح الدولة في المقام الأول، والحفاظ على مصالحها، تلكم هي النظرية الحقيقية في أفكار ميكافيلي.
ومن كبار فلاسفة عصر النهضة أيضاً، الذي مهددا للحداثة يمكن أن نذكر جيوردانو برونو (1548 ـ 1600) الذي انتهى نهاية مأساوية. فقد أدانته محاكم التفتيش بالهرطقة وحكمت عليه بالموت حرقاً، لأنه شكك ببعض العقائد المسيحية ولأنه تبنى النظرة العلمية للعالم والكون، وكان أكبر فيلسوف إيطالي في عصره. كان هذا المفكر يقول بأن معرفة الكون هي هدف الحياة الفلسفية. وكان يقول أيضا بأن هذه المعرفة غير ممكنة إلا عن طريق العقل والتجربة العملية المحسوسة. لهذا السبب اعتبره هيغل احد مؤسسي الفلسفة الحديثة ثم انتقلت النهضة الفلسفية إلى خارج ايطاليا: أي إلى البلدان الأوروبية الأخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب