أميركا أولاً

أميركا أولاً
سعد الله مزرعاني
اتخذ الرئيس الأميركي هذا العنوان شعاراً لحملته السياسية الانتخابية. هو يفضي، من حيث الشكل على الأقل، إلى ما هو نقيض الدور المألوف للولايات المتحدة الأميركية في العالم. وهو دور فريد، إلى حدٍّ كبير، في شموليته واتساعه وتدخله، المتعدد الأشكال والأساليب، في الشؤون الداخلية لكل بلدان العالم، وخصوصاً في كل أزماتها: بإشعالها أو باستغلالها.
«أميركا أولاً»، و«لنجعلها عظيمة مجدداً» (MAGA) انطويا في سلوك الرئيس ترامب، حتى الآن، على الكثير من العنصرية والميول الفاشية والمناكفة و«الخبطات» السياسية والإعلامية، فضلاً عن الانفعال والارتجال والذاتية المفرطة. فالرئيس مهووس بالعظمة وبالغرابة: في السلوك و«الحركات» والعلاقات والمقاربات.
«أميركا أولاً» هو ثمرة لعوامل عدة: أولها اختبار جديد لمواجهة المنافسة المتحدّية التي تمثلها الاقتصادات الصاعدة وأبرزها الاقتصاد الصيني. في هذا الصدد لجأ الرئيس الأميركي إلى ممارسة نوع من الابتزاز والبلطجة وفرض «الخوات» على كل الشركاء التجاريين لواشنطن: حلفاء وخصوماً. الذرائع متعددة: سياسية وأمنية واقتصادية. الأدوات متنوعة كذلك: ضرائب (الصين وكل الدول!).
«كاش»: الخليج والخمسة تريليون فضلاً عن الهدايا التي لا تقدر بثمن. فرض رفع نسبة المساهمة لدول حلف شمال الأطلسي في نفقات الحلف والقواعد الأميركية التي تقارب الـ 90 في مختلف أنواع العالم. التخلي عن مروحة واسعة من الالتزامات الفيدرالية في الداخل الأميركي وفي الخارج بما يشمل وكالات أميركية ودولية من معظم الاهتمامات والمسؤوليات. إجراءات داخلية شملت نزع الجنسية عن مئات الآلاف، وتسريح ما يفوق هذا العدد، وتقلص ميزانيات ومساعدات، في الداخل والخارج، في حقول مهمة علمية وتربوية وأمنية.
«أميركا أولاً» هو، إذاً، ثمرة انبثاق توازن لم يعد راجحاً، في صيغته العولمية السابقة، لمصلحة الإمبريالية الأميركية ولاحتكاراتها العابرة للحدود والحواجز التجارية والجمركية. ثم هو إحدى نتائج التحولات والتطورات الحديثة، بفعل تقدّم العلم والتكنولوجيا، في البنية الرأسمالية الراهنة. يجدر التنويه بما شهدته وتشهده اللقاءات الأممية ذات الصلة من تبرُّم واشنطن بالحدود المفتوحة ومن محاولات استحضار حمائية المنافسة في مرحلتها البدائية. هذا فيما تتمسك بكين، مثلاً، بالعولمة القائمة في وجه محاولات تدخل دول أو تكتلات دولية، لممارسة عمليات رفع الضرائب والرسوم تحت عنوان حماية الإنتاج المحلي.
«أميركا أولاً» الذي بدأ وكأنه انكفاء عام لواشنطن في ميادين أساسية، هو، في جانب أساسي منه، استعادة لإستراتيجية «المحافظين الجدد»: «وضع قوة أميركا العسكرية في خدمة مصالحها الاقتصادية»، وخصوصاً مصالح شركائها الكبرى. هو انخراط سلبي وانكفائي، ولكنه شامل وعولمي بمعنى جديد، فرضته التحولات والتوازنات التي تتسم بتراجع مكانة أميركا الدولية على أكثر من صعيد.
يشكّل الشرق الأوسط، لأسباب عدة، موضع اهتمام متواصل من قبل الإدارة الأميركية الحالية، ربما بأكثر مما كان بالنسبة إلى الإدارات السابقة. ترامب قدَّم «هدايا» غير مسبوقة لإسرائيل في ولايته الأولى: الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في 8 أيار عام 2018، وفرض عقوبات عليها. إعلان خطة «صفقة القرن»، وممارسة ضغط كبير، من أجل توسيع دائرة المطبعين مع العدو الصهيوني. نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعتبارها، موحَّدة، عاصمةً لدولة الاحتلال. اعتراف بـ«يهودية» الدولة العبرية، وبضم الجولان السوري… إلى أن «لاحظ» ترامب، أخيراً، بأن مساحة دولة إسرائيل «صغيرة جداً» ولا تفي بالغرض!
في التقليد التاريخي المعاصر أن اهتمام واشنطن بإيران كان كبيراً دائماً. هي من مارست الدور الأهم في تنفيذ انقلاب على حكومة الدكتور مصدق المنتخبة عام 1953، وحوّلت الشاه محمد رضا بهلوي إلى حاكم مطلق وركنٍ رئيسي في خطة بسط نفوذها على كامل منطقة الشرق الأوسط. حين أسقطت «الثورة الإسلامية» بقيادة الإمام الخميني سلطة الشاه عام 1979، بدأ نزاعها الأول والمتواصل، مع الإدارات الأميركية. شجّعت واشنطن الرئيس العراقي صدام حسين على بدء حرب ضد النظام الجديد في طهران. استدرجته، وشجعته بُعيد ذلك، على غزو الكويت! حين فعل، نظمت تحالفاً دولياً وإقليمياً لـ«تحريرها» من الغزو العراقي. ضربت، بذلك، خصمين ببعضهما، وخرجت، منفردة، بغلّة وافرة!
كان الشاه المخلوع حليفاً وازناً وقوياً لحكّام الكيان الصهيوني. لم يكن ذلك غائباً عن حسابات حكّام طهران الجدد الذين سارعوا إلى إقفال السفارة الإسرائيلية في طهران، واستبدلوها بسفارة فلسطينية. دشّن هذا الإجراء سياسة مناهضة للكيان الصهيوني وداعمة لكل أشكال المقاومة ضده: الفلسطينية واللبنانية (بدءاً من مقاومة غزو لبنان عام 1982) والعربية. التزام واشنطن برعاية المشروع الصهيوني في فلسطين وحمايته ودعمه زاد، تباعاً، في ضخامة ملف العلاقات الأميركية – الإيرانية وتعمقه وتأزمه.
هو يبلغ الآن ذروة تأزّمه عبر قرار حكومة تل أبيب الفاشية والأكثر تطرفاً بقيادة نتنياهو، خوض عدوان شامل على الجمهورية الإسلامية الإيرانية بهدف مزدوج تتشاركه مع واشنطن: ضرب النظام القائم في طهران وتغييره وتدمير برنامجه النووي، السلمي قبل العسكري، وقبلهما وأصلهما برنامجه السياسي! في السياق، وفي امتداد حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني (خصوصاً في غزة) والعدوان التدميري الإجرامي على لبنان، ومنذ أكثر من شهرين، قفز الملف النووي الإيراني إلى مقدمة جدول أعمال الرئيس ترامب.
أطلق، شخصياً، عملية تفاوض تجمع ما بين التهديد باللجوء إلى الخيار العسكري، من جهة، ووعود بالازدهار والرخاء للشعب الإيراني فيما لو تخلت قيادته عن سياساتها وبرامجها جميعاً، من جهة ثانية! عملية خداع رافقت المفاوضات التي أثارت، رغم ذلك، استياء حكومة نتنياهو التي تتعجّل تحرّكاً سياسياً وعسكرياً كبيراً تقوده واشنطن التي تملك، هي وليس تل أبيب، القدرات العسكرية اللازمة للقيام بمهمّة ضرب المشروع النووي الإيراني وتغيير النظام في طهران. إنّ إسقاط نظام طهران، سيشكّل الحلقة الأساسية في المخطط العدواني الصهيو-أميركي لـ«إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط» كما توعّد نتنياهو غداة «طوفان الأقصى»!
رعى ترامب مخططات وطموحات «صديقه» نتنياهو وفريقه الفاشي في كل محطات عدوانه السياسية والعسكرية: بالدعم المفتوح، وبالوساطة المخادعة، وبالمناورة الكاذبة، وبمحاولة تحقيق الأهداف التي عجز عن تحقيقها أثناء العدوان على غزة ولبنان وسوريا… فعل ذلك في ولايته الأولى، وها هو يستأنفها في ولايته الثانية.
بيد أنّ ترامب لم يأتِ بجديد في هذا الصدد، إلا في ما يتعلّق بالأسلوب وبالشكل. أمّا في الجوهر، فهو يواصل نهج الحكومات الأميركية المتعاقبة وسياساتها، ما يجعل المعركة الحقيقية ليست فقط مع إسرائيل، بل مع أميركا… أولاً!
* كاتب وسياسي لبناني