عصر التراجع

عصر التراجع
إن العنف والحروب تنشأ من استبدال العولمة الرأسمالية بالجغرافيا السياسية الإمبريالية ومن الصراعات المتجذرة في الفقر واليأس أو التفكك الاجتماعي…
غوران ثيربورن أحد أبرز علماء الاجتماع في العالم، ومؤلف أعمال مثل الحداثة الأوروبية وما بعدها (European Modernity and Beyond) والعالم: دليل للمبتدئين (The World: A Beginner’s Guide)، وحقول قتل انعدام المساواة (The Killing Fields of Inequality).
زعم ثيربورن في مقالة كتبها عام 2016 في مجلة New Left Review وجود مزاج سائد من التشاؤم حول فكرة التقدم التاريخي لدى اليسار، وهو ما اعتبره خاطئًا: «ضد، أو ربما بحذر أكبر، إلى جانب المزاج الكئيب السائد لدى اليسار، بما في ذلك يسار الوسط البيئي، يمكن القول إن البشرية اليوم بلغت ذروة تاريخية من إمكانياتها، من حيث قدرتها ومواردها على تشكيل العالم، ونفسها». في مقابلة أُجريت مؤخرًا، طلبنا من ثيربورن إعادة النظر في أفكاره حول ديناميكيات التطور الاجتماعي البشري وتوسيع نطاقها.
دانيال فين
إلى أي مدى ترى بأن فكرة التقدم، بحد ذاتها، حديثة تاريخيًا؟
غوران ثيربورن
يعدّ التقدم التزامًا يساريًا منذ نشأة اليسار قبل أكثر من قرنين من الزمان. وقد ظهرت قبل الحداثة وبوصفها توجهًا عامًّا نحو مستقبل مفتوح. كانت التفسيرات السائدة للتاريخ في العصور ما قبل الحديثة تنظر إليه إما أنه على شكل دورات أو من منظور الانحدار من العصر الذهبي للماضي. بالنسبة للمسيحيين العاديين، كانت هناك جنة عدن، أما بالنسبة للعلماء والفنّانين والمثقفين، فاليونان وروما الكلاسيكيتان أكثر أهمية. كان أرسطو هو السلطة العظمى في العلوم عمومًا لأكثر من 1500 عام، إلى جانب أساتذة قدماء آخرين في تخصصات محددة، مثل عالم التشريح اليوناني الروماني جالينوس في القرن الثاني. كانت الأطر الزمنية للعلوم مختلفة إلى حد كبير في العصور ما قبل الحديثة.
ساهم «الاكتشاف» والغزو الأوروبي للأميركيتين في العصر ما بعد الكلاسيكي في تآكل الشعور بالدونية تجاه المعرفة الأولمبية لدى القدماء. وفي كثير من الأحيان، استُخدمت الإنجازات التقنية الحديثة حججًا ضد هذه الدونية، مثل المطبعة والبوصلة البحرية والتلسكوب.
أكد العلم المعاصر على نفسه بنفسه —وعلى وتقدمه— في القرن السابع عشر، بالمقارنة مع العصور القديمة. كان الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون هو المبشر بذلك، وقدّم الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الأسس الفلسفية للقطيعة مع الماضي، في حين افتتحت فيزياء إسحاق نيوتن عصرًا علميًا جديدًا، أُسّس له في الجمعية الملكية البريطانية والأكاديمية الفرنسية للعلوم. وشهد ذلك القرن أيضًا انتفاضة حديثة كبرى على الجبهة الجمالية ضد الخضوع للقدماء، وهي الثورة الأدبية الفرنسية المعروفة باسم «الصراع بين القدماء والمعاصرين» (Quérelle des Anciens et des Modernes)، حيث ادعى الكُتّاب المعاصرون «في قرن لويس الكبير» أنهم متساوون في مكانتهم مع الأدب القديم.
ومن الناحية السياسية، ظهرَ المستقبل، بوصفهِ منطقة/مكان لم تُكتب أحداثه وبعد ويمكن للبشر خلقها، مع الثورة الفرنسية. اكتسبت مفاهيم الثورة والإصلاح في ذلك الوقت معناها الحديث بوصفها عمليات للتغيير الاجتماعي تؤدي إلى نوع جديد من المجتمع. قبل ذلك، كان «الإصلاح» (reformation) و«réforme» يعنيان الاستعادة -في البروتستانتية المسيحية، أي استعادة المسيحية التي سبقت الباباوية.
كانت كلمة «ثورة» (Revolution) تعني في الأصل «التراجع» واكتسبت عدة معاني، أولها معاني فلكية، تشير إلى الحركة المتكررة للأجرام السماوية، كما هو الحال في عمل نيكولاس كوبرنيكوس عام 1543 بعنوان حول دورات الأجرام السماوية (On the Revolutions of the Heavenly Spheres). أصبح مصطلح الثورة بحلول منتصف القرن السابع عشر يشمل أحداث الاضطرابات السياسية والاحتجاجات، أو العنف، وبهذا المعنى الواسع، استُخدم المصطلح وصفًا لـ «الثورة المجيدة» (Glorious Revolution) التي اندلعت عام 1688 في إنجلترا. وفي وقت لاحق، وفي ظل عام 1789، زعم المحافظون مثل إدموند بيرك (Edmund Burke) أن هذه «الثورة» لم تتضمن «فكرة جديدة واحدة» وأنها كانت تهدف فقط إلى «الحفاظ على قوانيننا وحرياتنا القديمة التي لا تقبل الجدل».
في العمل الفكري الرئيس في عصر التنوير، أي الموسوعة الفرنسية، ظهر المجلد الذي يتناول الحرف R في عام 1765. وقد احتوى الكتاب على عدة معاني للثورة (révolution)، بما في ذلك معانٍ تتعلق بصناعة الساعات. لقد حسمت الثورة الفرنسية نفسها دلالات الثورة. وبالإضافة إلى الحملة البريطانية اللاحقة من أجل التغيير البرلماني، فقد أدت هذه الحملة أيضًا إلى ترويج استخدام مصطلح «الإصلاح» (Reform) باعتباره بابًا إلى أمرٍ جديد وأفضل.
دانيال فين
هل يمكننا فصل مفهوم السيادة عن المفاهيم التقليدية القائلة بأن للإنسانية حق السيادة على الطبيعة؟
غوران ثيربورن
لا أعتقد أن هذا السؤال يجب أن يُطرح في إطار الحقوق. كانت الطبيعة، بالنسبة للإنسان ما قبل الحديث، في كثير من الأحيان قوة ساحقة تتضمن الجفاف والفيضانات والصقيع والانفجارات البركانية والزلازل، ناهيك عن الطّاعون والأمراض الوبائية الأخرى.
وكانت هناك أيضًا تصورات ما قبل الحداثة للطبيعة باعتبارها كيانًا حيويًا ينتمي إليه البشر ويجب عليهم احترامه. غير إن هذه المفاهيم لم تكن منتشرة على نطاق واسع بين الفلاحين الأوروبيين وسكان المناطق الحضرية في العصور الوسطى —وهي البيئة التي تطورت منها الحداثة. لقد بدأت «سيادة» الحداثة على الطبيعة بوصفها تحررًا إنسانيًا من عبودية الطبيعة، وكان جوهر هذا التحرر هو ما يسمى بالفخ المالتوسي، حيث أدت الحصيدة الجيدة إلى الاكتظاظ السكاني وفترة جديدة من الجوع.
ومن الصحيح أن شخصية مثل بيكون (Francis Bacon)، الذي كان سياسيًا بارزًا فضلًا عن كونه المبشر الفلسفي بـ «أداة جديدة للعلوم» في كتابه الأورغانوم الجديد أو التوجيهات الصحيحة المتعلقة بتفسير الطبيعة (Novum Organum)، كان بإمكانه أن يكتب مقالًا في عام 1603 عن «الميلاد الذكوري للزمن، أو ترسيخ هيمنة الإنسان على الكون»، وحثّ البشر على «جعل [الطبيعة] عبدة لهم». وقد زعم أن هذا حق إنساني بموجب إرث إلهي.
ولكننا نستطيع أن نرى أيضًا أن الثورة العلمية في القرن السابع عشر تضمنت اكتشاف قوانين الطبيعة، التي استطاع الإنسان الاستفادة منها ولكن لم يستطع السيطرة عليها أو تغييرها. لقد كان هذا المنظور هو الذي انتقل إلى اقتصاد القرن التاسع عشر وإلى نظرية التطور السبنسرية. بالنسبة لديكارت، فإن المنفعة الأساسية «لثمار الأرض وكل الخير الذي يمكن العثور عليه فيها»، والذي من الممكن أن يستمتع به البشر بفضل العلم والاختراعات، هو «الحفاظ على الصحة».
دانيال فين
ما حدود نظرية التطور الاجتماعي في القرن التاسع عشر؟
غوران ثيربورن
كان القرن التاسع عشر في أوروبا وأميركا الشمالية قرن التغيير والتحول التاريخي، اجتماعيًا وتكنولوجيًا، وربما أكثر من أي فترة أخرى في السجلات التاريخية. إذ كان عصر المحرك البخاري والضوء الكهربائي والسكك الحديدية والسفن البخارية والتلغراف، وغير ذلك الكثير. وباتت نهاية حكم الملوك والأرستقراطيين واضحة، وظهر اقتصاد جديد على أسس صناعية ورأسمالية. كما كانت هناك بالتأكيد العديد من الاستمراريات والتغييرات غير المكتملة، ولكن أُنتِج المزيد من السلع أكثر من أي وقت مضى، وأصبحت وسائل النقل والسفر أسرع، وأصبح للنّاس العاديين المزيد من الحقوق والحريات. باختصار، كان العالم البشري في حركة وتطور. حاولت العلوم الاجتماعية الجديدة مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا فهم ما كان يحدث وتصنيف المجتمع الجديد الناشئ.
وليس من العجيب إذن أن يصبح القرن التاسع عشر قرن التطور. لقد فتحت الاكتشافات العلمية الجديدة آفاقًا جديدة لأعداد كبيرة من السكان، كما غيّر علم الجيولوجيا الجدول الزمني للأرض، وأظهر تشارلز داروين كيف تطورت الحياة على هذا الكوكب. غير إن التطورية الاجتماعية الفيكتورية انغلقت على نفسها وأصبحت ابنة عم علمانية للعناية الإلهية المسيحية. لقد كان هذا الفكر عالميًا، ويستند إلى منظور يرى أن جميع البشر يواجهون نفس درجات التطور الاجتماعي والثقافي، ولكنهم الآن يقفون على درجات مختلفة. وقد عُبِّرَ عن هذه الكونية (Universalism) على نحوٍ مميز باستخدام مصطلحات المركزية الأوروبية والعنصرية (مأخوذة من مونتسكيو) باعتبارها تمر عبر مراحل «الوحشية والبربرية والحضارة».
كان التقدم والتطور في هذا النموذج حتميين، مع ميل متأصل للتغيير البطيء والتدريجي وغير المخطط له. إن أية محاولة سياسية للتلاعب بهذا الاتجاه ستكون عقيمة. لقد كان مصير هذا التطور واضحًا: «الكمال الأعظم [للإنسان] والسعادة الأكثر اكتمالًا»، كما قال هربرت سبنسر.
كانت نظرية التطور لداروين مستوحاة في الأصل من الاقتصادي المحافظ توماس مالتوس ورؤيته القاتمة لـ «صراع الإنسان من أجل البقاء». وفي أواخر القرن التاسع عشر، عادت الداروينية إلى المجتمع البشري في شكل الداروينية الاجتماعية، لتصبح أيديولوجية أباطرة العصر الذهبي باعتبارها بقاء الأصلح.
ومع ذلك، توجد نزعات تطورية محفورة في التطورات الحديثة للعلوم والطب والتكنولوجيا. تعمل هذه النزعات على توسيع الفرص المتاحة للبشر، على الرغم من أن مدى تحقيق مثل هذه الفرص يعتمد على علاقات القوة التي تعتمد إلى حد كبير على الظروف. أعتقد أن اليسار يجب أن يتجنب عزل نفسه عن هذا المنظور للعالم المعاصر.
وأنا مقتنع أيضًا بأن النظرة التطورية التي تأخذ في الاعتبار «الديناميكيات الاجتماعية التكيفية» المتمثلة في المحاكاة، والنجاح أو الفشل الملحوظ، والتقليد أو الهجر، يمكن أن تكون صادمة ومفيدة في التحليل السياسي. أعتقد أن جوهر الفكر النقدي هو الحفاظ على مراقبة التناقضات، وانعدام التوازن، وانعدام المساواة في الواقع الاجتماعي (وكذلك في البيانات المتعلقة به).
دانيال فين
ما مدى التقدم الذي أحرزته البشرية نحو القدرة على ممارسة شكل من أشكال الفاعلية الجماعية بوصفهم نوعًا؟
غوران ثيربورن
إن الفاعلية البشرية الكوكبية حديثة تاريخيًا، إذ بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، مع محاولات لإنشاء نظام زمني كوكبي اكتملت بعد وقت طويل في القرن التالي. شهدنا في عام 1899 أول مؤتمر عالمي للدول، وهو مؤتمر السلام في لاهاي الذي بدأه القيصر الروسي. واستضافت باريس في عام 1900 أول مؤتمر عالمي كبير للعلماء، أو الفلاسفة في هذه الحالة.
حققت البشرية بعض التقدم بالتأكيد. والأهم من ذلك هو مجموعة المنظمات القطاعية للأمم المتحدة —منظمة العمل الدولية (ILO) واليونيسيف (UNICEF) واليونسكو (UNESCO)، وغيرها— مع أهدافها الإنمائية للألفية، التي وضعت في عام 2000، وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2015. تُشكّل مؤتمرات المناخ العالمية، التي بدأت في عام 1979، محاولات صحيحة للتعامل مع الأزمة الحادة المتمثلة بتغيّر المناخ. ورغم أنهم لم يحققوا ما يكفي بالتأكيد، فإنهم ما زالوا يتركون تأثيرًا عالميًا. تُراقبُ مصالح الرأسمالية على المستوى العالمي وُتدار جزئيًا على يدِ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ولكن يجب علينا أن نلاحظ أيضًا أن الحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين، بدعم من الولايات المتحدة وحلفائها، إلى جانب تحديها المهين والمذل للأمم المتحدة، بما في ذلك إعلان الأونروا منظمة إرهابية، يشير إلى بداية انهيار عالم الأمم المتحدة. إن التباهي الإسرائيلي باستفزاز القانون الدولي والمحاكم الدولية -والذي أصبح ممكنًا بفضل حماية جو بايدن، والتي يواصل دونالد ترامب توفيرها- يشير إلى ظهور عالم فوضوي تحكمه الجغرافيا السياسية الإمبريالية.
دانيال فين
بالنسبة لبعض الناس، قد يكون من البديهي أن التاريخ البشري تميز بالتقدم في مجالات مختلفة، ولكنك كنت توجه حججك على وجه الخصوص نحو أولئك الذين يشككون في هذه الفرضية. بالنسبة لأولئك المُشككين، ما الأمثلة الرئيسة للتقدم التي يمكننا تحديدها خلال القرون القليلة الماضية؟
غوران ثيربورن
لعل من الأفضل أن نبدأ بتحديد ما يمكن أن نعنيه بالتقدم. استنادًا إلى عمل أمارتيا سين (Amartya Sen)، أود أن أقترح أن نعرف التقدم باعتباره تعزيزًا للقدرة البشرية على العمل. ومن ثم يتعين تقسيم هذا إلى مجالات محددة، والتي يمكن تجميعها بدورها في فئتين على الأقل، إحداهما تتكون من المعرفة والتكنولوجيا الاجتماعية، والأخرى تتكون من التنظيم الاجتماعي.
في الحالة الأولى، من أجل البحث عن التقدم، يتعين علينا أن ننظر إلى متوسط العمر المتوقع والصحة والتعليم والمعرفة العلمية والإنتاجية والقدرة على التنقل والتواصل. وفي الثاني، ينبغي لنا أن نركز على الإدماج الاجتماعي بالمعنى الواسع، بما في ذلك المساواة والتضامن الاجتماعي (أي تقديم المساعدة في حالات الحاجة) والاستقلال الفردي (أي الحرية).
ومن الناحية المثالية، ينبغي قياس التقدم مع الأخذ في الاعتبار التدمير المتزايد للموائل البشرية وكذلك البشر أنفسهم. وتتوفر بعض البيانات في هذا المجال —عن الوفيات الناجمة عن القتل، والحروب، والكوارث الطبيعية، على سبيل المثال. ولا تزال هناك آثار أخرى يصعب تقييمها، مثل حجم الدمار البيئي أو آثار زيادة الكفاءة في وسائل التدمير.
لن يجادل أحد في الحجّة القائلة بأن التقدم الذي تحقق في القرون الأخيرة لا رجعة فيه عندما يتعلق الأمر بالعلم والطب والتكنولوجيا. إن الثورة الصناعية والثورات الزراعية التي أدت إلى زيادة الإنتاجية والدخل هي بالتأكيد أحد الأمثلة. تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عشرة أضعاف بين عامي 1820 و2003. ارتفع متوسط العمر المتوقع للإنسان عند الولادة من حوالي ستة وعشرين عامًا في عام 1820 إلى ثلاثة وسبعين عامًا في عام 2020.
كان معدل الإلمام بالقراءة والكتابة في عام 1820 بين سكان العالم من سنّ المدرسة الثانوية فأعلى حواليّ 12%، وبحلول عام 2020، وصل إلى 87%. توجد، بطبيعة الحال، تفاوتات إقليمية كبيرة في المؤشرات الثلاثة، كما وتوجد انحناءات هبوطية محلية للمنحنى التقدمي —على سبيل المثال، انخفاض معدلات متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ولكن لم يتراجع أي بلد عن مستواه قبل عام 1950 في أي من المقاييس الثلاثة.
إن سجل التقدم في التنظيم الاجتماعي أكثر غموضًا، مع وجود اتجاهات تقدمية ورجعية، واختلافات أكبر بكثير عبر الزمان والمكان. لقد كان هناك بلا شك تقدم كبير في مجال الحرية الإنسانية، حيث أصبح العمل الحر هو السائد مع نهاية العبودية والقنانة، ومع اكتساب الأفراد القدرة على اختيار تعليمهم ومهنهم ودينهم وشريكهم. ومن المرجح أيضًا أن يكون هناك قدر أكبر من الحرية للمشاركة في التنظيم والعمل الجماعي (أو الامتناع عنهما) مقارنة بما كان عليه الحال قبل قرنين أو ثلاثة قرون.
ولكن النفي المطلق للحرية الإنسانية، بالسجن والقتل، لم يكن على مسار واضح نحو الانحدار. ارتفعت معدلات السجن في الاتحاد السوفييتي في عهد جوزيف ستالين إلى ذروة بلغت 1470-1760 شخصًا لكل 100 ألف نسمة. وقد انخفض المعدل منذ منتصف الخمسينيات وحتى الوقت الحاضر مع بقائه عند مستوى مرتفع، ليصل إلى 322 لكل 100 ألف نسمة في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي بحلول عام 2022.
ارتفعت معدلات السجن في الولايات المتحدة بحدة بعد الحرب الأهلية، في الشمال وكذلك في الجنوب. ثم قفزت الأعداد بعد عام 1970 حتى وصلت إلى ذروة تاريخية في عام 2008، حيث بلغ عدد السجناء 755 سجينًا لكل مئة ألف نسمة، وهو ما يقرب من نصف الحد الأقصى للمعدل السوفييتي. وبحلول عام 2022، انخفض الرقم إلى 541.
ورغم التراجع في أعداد السجناء في روسيا والولايات المتحدة، فإن عدد السجناء في السجون على مستوى العالم يظهر اتجاها تصاعديًا طفيفًا خلال العقد بين عامي 2012 و2022. يبلغ عدد السجناء في السجون العالمية حاليًا حوالي 11.5 مليون سجين. ورغم أن نموها خلال القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة والعديد من البلدان الأخرى كان مؤشرًا على تراجع الحرية الإنسانية، فإن ضحايا هذا الاتجاه كانوا أقل عددًا من المستفيدين من قدر أعظم من الحرية في مجالات أخرى.
ولم يتراجع العنف المميت مع انتشار التجارة والصناعة كما تصور فلاسفة عصر التنوير والتطوريون في القرن التاسع عشر. كانت الحرب العالمية الثانية هي الحرب الأكثر دموية في تاريخ البشرية، حيث بلغ إجمالي عدد القتلى 70 إلى 85 مليون شخص، بما في ذلك الوفيات غير المباشرة النّاجمة عن المرض والمجاعة. وكان أكثر من نصف الضحايا من السوفييت أو الصينيين.
وصلت ضراوة القمع الذي مارسته الأنظمة الاستبدادية إلى مستويات غير مسبوقة في القرن العشرين، في حين أثبتت المحاولات التي بُذلت بعد الحرب لمنع وقوع مجازر جديدة أنها عقيمة إلى حد كبير. لقد كانت الاتفاقيات الخاصة بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية عاجزة أمام الممارسات الاستعمارية التي اتبعتها فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بعد الحرب، من الجزائر ومدغشقر إلى كينيا وفيتنام، أو أمام الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة للفلسطينيين.
ولم تكن هناك «أرباح للسلام» بعد الحرب الباردة. لقد أدت الحروب التي شنتها الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى مقتل أكثر من 900 ألف شخص بصورةٍ مباشرة، مقابل مقتل 15 ألف أميركي. وبلغ عدد الوفيات غير المباشرة الناجمة عن الدمار والمرض نحو أربعة ملايين. ولا يزال التعذيب والمجاعة من صنع الإنسان موجودين بيننا في القرن الحادي والعشرين، كما يتضح من حالات العراق وفلسطين والسودان وإثيوبيا وغيرها.
هل يمكننا مقارنة قتل البعض بحياة أطول وأفضل للآخرين؟ وهذا سؤال أخلاقي ليس له إجابة سهلة، ومن غير المرجح أن يكون هناك إجماع عليه. لن أتظاهر بأنني متأكد من كيفية الإجابة عليه إجابة صحيحة. دعوني أضيف حجة ديموغرافية للنظر فيها إلى جانب قصص الرعب المعروفة.
فعلى الرغم من الخسائر الهائلة التي تكبدتها الحرب، فإن عدد السكان السوفييت والصينيين ارتفع في الفترة ما بين عامي 1913 و1950، بنسبة 0.38% و0.61% سنويًا على التوالي (في الهند الاستعمارية، بلغ معدل النمو السكاني 0.45% سنويًا خلال نفس الفترة). في عام 1950، كان عدد سكان العالم 2.5 مليار نسمة، وكان بإمكان هذه الفئة من السكان في المتوسط أن تتطلع إلى أربعة عشر عامًا إضافية من حياة أكثر ازدهارًا مقارنة بالفئة التي ولدت في عام 1913.
لقد توسّع نطاق الإدماج الاجتماعي، من خلال تفكيك العنصرية الصريحة والمؤسسية، ومن خلال إنهاء الاستعمار، ومن خلال نزع الشرعية عن الحواجز الطبقية وإضعافها، ومن خلال منح الحقوق المدنية للنساء والشعوب الأصلية. ولكن على الجانب المَدين، تزايد الإقصاء الاجتماعي في شكل عدم المساواة الاقتصادية على نطاق عالمي من عام 1820 حتى بلغ ذروته في عام 1910، ثم تلاه ارتفاعٍ مستمر حتى حوالي عام 1950. وانخفض بعدها حتى عام 1980 تقريبًا، قبل أن يرتفع إلى نفس المستوى الذي كان عليه في عام 1910 بحلول عام 2007، وأخيرا يصل إلى مستوى تسعينيات القرن التاسع عشر في عام 2020. وبعبارة أخرى، لم يكن هناك تقدم دائم في الإدماج الاقتصادي للنصف الأدنى من البشرية في الفرص الناجمة عن توسع الإنتاجية البشرية خلال القرن العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
إن الشكوك المتعلقة بالتقدم البشري أمر مفهوم. ومع ذلك، فإن السمة المميزة (والقوية) للتشكيل الماركسي هي الاستعداد للرؤية والاعتراف بالطبيعة المتناقضة للتطور الاجتماعي. نعم، لقد كان هناك تقدم في بعض المجالات. نعم، كان هناك تراجع في الآخرين. في بعض الأحيان قد نضطر إلى الموازنة بين الاثنين. لكنني أعتقد أننا يجب أن نعترف أيضًا بأننا في بعض الأحيان نتعامل مع أشياء لا يمكن مقارنتها.
دانيال فين
في إطار زمني أحدث بكثير —يمتد تقريبًا من منتصف سبعينيات القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر— ما التقليعات الأكثر بروزًا فيما يتعلق بالتنمية البشرية في جميع أنحاء العالم (ككل)؟
غوران ثيربورن
لقد شكّل منتصف سبعينيات القرن العشرين انقطاعًا في الاتجاه السلبي في عدة جوانب. وعلى المستوى العالمي، كانت تلك بداية لتباطؤ اقتصادي مستمر. لقد كانت الستينيات من القرن العشرين العقد الذي شهد أعلى معدل للنمو الاقتصادي العالمي في تاريخ البشرية، وبعد ذلك، ظل المعدل أقل من هذا المستوى المرتفع. كما سجل متوسط العمر المتوقع للإنسان أكبر زيادة على الإطلاق في الستينيات قبل أن يبدأ في التباطؤ في منتصف السبعينيات.
ومن عام 1989 إلى عام 2004، شهد متوسط العمر المتوقع انخفاضًا حادًا، في حين ظل عند مستوى إيجابي على الصعيد العالمي. وقد كان السبب الرئيس وراء ذلك هو الانخفاض المطلق في متوسط أعمار البشر في منطقتين من مناطق الكوارث: جنوب أفريقيا التي تأثرت بسوء إدارة وباء الإيدز، والاتحاد السوفييتي السابق الذي تأثر باستعادة الرأسمالية. لقد حدثت حالات تقصير طفيفة في متوسط أعمار البشر خلال هذا القرن، في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وفي البلدان الغنية، توقف الاتجاه نحو معادلة الدخل منذ عام 1945 فصعودًا، وانعكس الاتجاه في العديد من البلدان (وخاصة الولايات المتحدة). كما انعكست المساواة ما بعد الاستعمارية في بلدان مثل الهند وإندونيسيا. بعد عام 1970، ارتفع نطاق انعدام الحرية على نحوٍ كبير في الولايات المتحدة، حيث ارتفعت مستويات السجن بأكثر من 700% بحلول عام 2009.
ولكن التراجع ليس القصة الوحيدة في هذه الفترة. إن الانتشار العالمي (غير المتكافئ) لأجهزة الكمبيوتر الشخصية والهواتف الذكية والإنترنت يعني التقدم لعموم الناس. وقد شهدت الصين والهند نموًا مذهلًا في الإنتاجية والدخل، فضلًا عن مراحل غير عادية من التنمية الاقتصادية في جميع مناطق الجنوب العالمي.
لقد حدث انخفاض غير مسبوق في الفقر المدقع المطلق، من حوالي 49% من سكان العالم في عام 1975 إلى 8% في عام 2020، مع مضاعفة متوسط معدل الانخفاض السنوي من 0.5% بين عامي 1950 و1990 إلى 1% بين عامي 1990 و2020. لقد عُززت مكانة المرأة، وأصبح هناك المزيد من الاعتراف بالسكان الأصليين، وفُكِّكَ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. كما قُبِلت المساواة بين الجنسين في أجزاء كبيرة من العالم.
دانيال فين
وجد كثير من الناس خلال فترة الحرب الباردة صعوبة في البقاء متفائلين حول المستقبل في ظل الحرب النووية بوصفها تهديدًا حقيقيا للغاية. وكان لأزمة المناخ مؤخرًا، تأثير مماثل. ما آثار المشاكل البيئية على الطريقة التي نفكر بها في التقدم؟
غوران ثيربورن
إن الاعتراف بأن هناك تقدمًا في تاريخ البشرية لا يعني بالضرورة التفاؤل بالمستقبل. وفي أقصى تقدير، قد يتضمن ذلك الاعتراف بأن البشرية أثبتت قدرتها على التعلم والتطور، وخاصة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وبالتالي قد تكون قادرة على إيجاد حلول غير كارثية في المستقبل.
تتعلق مشاعر التفاؤل والتشاؤم بمستقبل ذاتي خيالي، وبالتالي، فهي هشة ومتقلبة في كثير من الأحيان. ومع ذلك، فمن الواضح أن هذه المُسْتَقْبَلَات الخيالية تؤدي دورًا هامًا في المجتمعات الحديثة. كما أنها ترتكز على (فضلًا عن ارتباطها الثقافي بـ) المواقف تجاه المخاطرة والنفور منها. هناك تقسيم ثقافي غير ملحوظ بين الناس، بين من يخاطرون ومن يتجنبون المخاطر. إن ثقافات الرعاية، أي رعاية الآخرين، أكثر وعيًا بالمخاطر من ثقافات الفردية والرأسمالية والمقامرة التي تحركها المخاطرة.
إن المخاطرة المتفائلة تشكل عنصرًا أساسيًا في ديناميكيات الرأسمالية، ويشكل «بيان المتفائلين التكنولوجيين» (The Techno-Optimist Manifesto) الذي كتبه رجل رأس المال الاستثماري الأميركي البارز مارك أندريسن (Marc Andreessen) تجسيدًا مثيرًا للاهتمام لهذه المخاطرة. فكر في بعض ادعاءات أندريسن وكيفية مقارنتها بالواقع.
«نحن نؤمن بأنه لا توجد مشكلة مادية […] لا يمكن حلها بمزيد من التكنولوجيا. لقد واجهنا مشكلة المجاعة، لذلك اخترعنا الثورة الخضراء». بعد ستين عامًا من الثورة الخضراء، كان حوالي 733 مليون شخص يعانون من الجوع وسوء التغذية في عام 2023، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية —أي بزيادة قدرها 152 مليونًا منذ عام 2019.
«كانت لدينا مشكلة الظلام، لذلك اخترعنا الإضاءة الكهربائية». يعيش ما يقرب من نصف سكان دول جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، أي حوالي 600 مليون نسمة، بدون كهرباء. «لقد واجهنا مشكلة البرد، لذلك اخترعنا التدفئة الداخلية». لا يزال هناك نمط من زيادة معدلات الوفيات في فصل الشتاء في المملكة المتحدة. «لقد واجهنا مشكلة العزلة، لذلك اخترعنا الإنترنت». ما تزال العزلة الاجتماعية حالة إنسانية قاتلة.
«لقد واجهنا مشكلة الأوبئة، لذلك اخترعنا اللقاحات». لقد تبين أن الوفيات الزائدة نتيجة لمرض كوفيد-19 ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنسبة الأشخاص الذين يعيشون في فقر، ومستويات الناتج المحلي الإجمالي للفرد، ومعدلات عدم المساواة في الدخل. «لدينا مشكلة الفقر، لذلك اخترعنا التكنولوجيا لخلق الوفرة». إن الوفرة ليست هي حال الأغلبية البشرية. باختصار، يركز هذا النوع من التفاؤل فقط على التكنولوجيا كشيء، وليس على قيمتها موردًا وممارسةً اجتماعية على الإطلاق.
والجانب الثاني اللافت للنظر في البيان هو عدوانيته. «يعتقد المتفائلون بالتكنولوجيا أن المجتمعات، مثل أسماك القرش، تنمو أو تموت… نحن نؤمن بالطموح والعدوانية والمثابرة والإصرار والقوة». ويقتبس أندريسن أيضًا من البيان المستقبلي (Futurist Manifesto) للفاشي الإيطالي فيليبو توماسو مارينيتي (Filippo Tommaso Marinetti): «الجمال لا يوجد إلا في النضال. لا توجد تحفة فنية لا تتمتع بطابع عدواني». كما أن فريدريك نيتشه أحد «القديسين الراعيين» له، و«أن يتحول إلى رجل تكنولوجيًا فائقًا» هو حلمه الكبير.
تُشكّل التكنولوجيا اللااجتماعية والعدوانية الفاشية نقيضًا بارزًا لثقافات الرعاية الاجتماعية والمساواة والعدالة والتعاطف والاهتمام والمساعدة.
ثمة شعور علمي نخبوي بالمسؤولية، كجزء من ثقافة الرعاية، التي تمتد من علماء الذرة المهتمين في الخمسينيات إلى علماء المناخ في العقود التي سبقت الألفية الجديدة، وصولا إلى جيفري هينتون (Geoffrey Hinton)، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024، إلى جانب علماء آخرين في الخطوط الأمامية يحذروننا من أخطار الذكاء الاصطناعي التوليدي. لا أعتقد أن هذا الخط من الوعي العلمي بالمخاطر يمكن وصفه بالتشاؤم. ولا يمثل ذلك تساؤلًا أو إنكارًا للتقدم البشري. في الأساس، هو شكل من أشكال تقييم المخاطر الخطيرة من قبل أفضل العلماء في هذا المجال.
وتختلف تأثيرات تقييمات المخاطر العلمية الثلاثة المذكورة أعلاه فيما يتصل بقضية التقدم. كان العلماء الذريون يخشون أن يستخدم السياسيون والجنرالات، بسبب الغباء أو عدم التعقل، الوسائل التي أنتجوها هم أو زملاؤهم لتدمير البشرية. وبعبارة أخرى، أشار العلماء إلى حالة متطرفة من الطوارئ غير المتوقعة في التاريخ البشري والتي كانت دائمًا تحدد التقدم البشري. لقد تبين أن التوازن الثنائي للقوى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قادر على إدارة المخاطر، ولكن بالكاد، كما أظهرت لنا أزمة الصواريخ الكوبية.
تشكل أخطار تغير المناخ، وربما الذكاء الاصطناعي، تحديًا أكبر لفكرة التقدم ذاتها. ربما يتبين أن التقدم الاقتصادي الهائل الذي حققته البشرية كان بلا جدوى، مما أدى إلى تقويض قدرة البشر على البقاء. ما تزال المخاطر المستقبلية للذكاء الاصطناعي غامضة وغير مؤكدة، ولكنها قد تؤدي إلى تآكل استقلالية الإنسان، وبالتالي تعني نهاية التقدم وسيادة الإنسان.
حتى الآن، أعتقد أن الفرضية المروعة بشأن نتائج تغير المناخ لا تمتلك سوى القليل من الأساس التجريبي. لقد ثبت أن انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري يمكن أن تنخفض ويمكن تطوير مصادر الطاقة المتجددة. ويتم أيضًا تطوير تقنيات جديدة للاستدامة: مثل احتجاز الكربون، أو طرق إنتاج الفولاذ والأسمنت دون استخدام الوقود الأحفوري، على سبيل المثال.
لقد أصبحت السيارات الكهربائية والألواح الشمسية ومزارع الرياح موجودة هنا بالفعل بأعداد كبيرة، كما أصبحت النماذج الأولية التجارية للتقنيات الجديدة موجودة أيضًا. إن أزمة المناخ هي في المقام الأول أزمة سياسية وليست أزمة تقدم. إن المشكلة تكمن في غياب (حتى الآن) قوى سياسية عالمية راغبة وقادرة وقوية بما يكفي لاستخدام الوسائل المتاحة أو التي هي في طور التطوير لحل هذه المشكلة.
دانيال فين
لعل جائحة كوفيد-19 توضح على نحوٍ جيد وجهة نظرك حول الطبيعة الجدلية المتناقضة للتطور الاجتماعي. من ناحية، لدينا التقدم الاستثنائي في العلوم الطبية الذي جعل من الممكن تطوير اللقاحات في مثل هذا الوقت القصير، ومن ناحية أخرى، لدينا التفاوتات الاجتماعية واللاعقلانية التي وقفت في طريق جعل تلك اللقاحات متاحة لجميع أولئك الذين يحتاجون إليها. أي من هذه الاتجاهات تعتقد أنه من المرجح أن يسود على المدى المتوسط أو الطويل؟
غوران ثيربورن
لقد تبين أن الجائحة كانت تجربة اجتماعية معقدة للغاية، تتراوح من الذعر السياسي وانعدام الكفاءة والفساد إلى لحظات من العزيمة والحيلة المفاجئة، وهو أمر غير معتاد في الولايات المتحدة خلال أوقات السلم. من المؤكد أن تطوير الذكاء الاصطناعي سوف يسرع من إنتاج اللقاحات. وفي الوقت نفسه، ثمّة إجماع واسع النطاق على أن الذكاء الاصطناعي عمومًا، في ظل السيطرة الحالية لرأس المال، من المرجح أن يؤدي إلى زيادة مستويات التفاوت المرتفعة بالفعل.
إننا نشهد حاليًا فترة من الانحدار الاجتماعي الواسع النطاق، أكثر وحشية وعنفًا من تلك التي حدثت في عام 1980. إن العنف والحروب تنشأ من استبدال العولمة الرأسمالية بالجغرافيا السياسية الإمبريالية ومن الصراعات المتجذرة في الفقر واليأس أو التفكك الاجتماعي. إن انتصار الترامبية يطلق العنان لأبشع أشكال الاقتصاد السياسي الرأسمالي. هذه أوقات مظلمة، ومن المرجح أن تصبح أكثر ظلامًا. ومع ذلك، فإن الأوقات تتغير -عاجلًا أم آجلًا- ولا أرى أي سبب للاعتقاد بأن القدرة البشرية على التقدم سوف تتدمر.
إحالات:
1. الثورة المجيدة (The Glorious Revolution): انقلاب سياسي وقع في إنجلترا عام 1688، وأدى إلى خلع الملك جيمس الثاني الكاثوليكي وتولي ابنته ماري وزوجها وليام الثالث العرش. اعتُبرت هذه الثورة «مجيدة» لأنها تمت دون إراقة دماء تُذكر في إنجلترا، وأسست لمرحلة دستورية جديدة عززت من سلطة البرلمان مقابل تقليص صلاحيات الملك. كما مهّدت الطريق لإقرار «قانون الحقوق» عام 1689، الذي وضع أسس الملكية الدستورية البريطانية (المُترجم).
2. يشير الفخ المالتوسي (Malthusian Trap) إلى النظرية التي وضعها الاقتصادي البريطاني توماس مالتوس (Thomas Malthus) في أواخر القرن الثامن عشر، والتي تفترض أن أي نمو في الدخل أو الإنتاج الغذائي في المجتمعات الزراعية سيؤدي إلى زيادة سكانية تفوق الموارد المتاحة، مما يعيد مستوى المعيشة إلى حد الكفاف. هذا الفخ يفسّر أسباب بقاء مستويات المعيشة منخفضة لقرون قبل الثورة الصناعية، حيث كانت الزيادة في الإنتاج تقابلها زيادة سكانية مماثلة. وقد تحدّى علماء الاقتصاد هذه النظرية لاحقًا، خاصة بعد التقدم التكنولوجي الذي كسر هذا النمط (المُترجم).
3. التطورية السبنسرية (Spencerian Evolutionism): نظرية اجتماعية وفلسفية صاغها الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر في القرن التاسع عشر، مستعيرًا مفاهيم من علم الأحياء لتفسير تطور المجتمعات البشرية. اعتبر سبنسر أن المجتمعات تتطور من حالات بسيطة وغير متمايزة إلى حالات أكثر تعقيدًا وتنظيمًا، مشبهًا المجتمع بالكائن الحي الذي يتطور وفق قوانين الطبيعة. كما اشتهر بمقولته «البقاء للأصلح»، والتي نُسبت لاحقًا خطأً لداروين، واستخدمها لتبرير الليبرالية الاقتصادية وعدم تدخل الدولة. تعرّضت هذه النظرية لاحقًا لانتقادات شديدة، خصوصًا لاستخدامها في تبرير التفاوت الطبقي والاستعمار (المُترجم).
4. اقتصادي وفيلسوف هندي حاصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1998، تقديرًا لإسهاماته في نظرية الرفاهية والاقتصاد التنموي. طوّر مفهوم «القدرات» الذي يركّز على ما يستطيع الأفراد فعله والاختيارات المتاحة لهم، بدلًا من الاقتصار على قياس الدخل أو الناتج القومي كمؤشرات للرفاه. أسهم في إعادة تعريف مفاهيم مثل الفقر والعدالة، وأثر تأثيرًا كبيرًا في تطوير مؤشر التنمية البشرية المستخدم من قبل الأمم المتحدة. كما كتب بتوسع عن المجاعات، مؤكّدًا أن الجوع غالبًا ما ينتج عن مشاكل في التوزيع والسياسات، وليس عن نقص حقيقي في الغذاء (المُترجم).
5. القنانة (Serfdom): نظام اجتماعي-اقتصادي ساد في أوروبا خلال العصور الوسطى وحتى بدايات العصر الحديث، حيث كان «القنّ» مرتبطًا بالأرض التي يعمل فيها، غير قادر على مغادرتها أو امتلاكها، وخاضعًا لسلطة الإقطاعي. وعلى عكس العبد، لم يكن القن يُباع فرديًا، بل كان يُنقل مع الأرض. وفّرت القنانة اليد العاملة الأساسية في الاقتصاد الزراعي الإقطاعي، لكنها حدّت من الحراك الاجتماعي والاقتصادي. بدأت القنانة بالانحسار في أوروبا الغربية بحلول القرن السادس عشر نتيجة تغيّرات اقتصادية وسياسية، بينما استمرت في أوروبا الشرقية حتى القرن التاسع عشر (المُترجم).
6. مهندس برمجيات ورائد أعمال ومستثمر أميركي، وُلد عام 1971، ويُعد من الشخصيات البارزة في تطوير شبكة الإنترنت الحديثة. اشتهر بتطوير أول متصفح ويب ناجح واسع الاستخدام Mosaic عام 1993 خلال عمله في المركز الوطني لتطبيقات الحوسبة الفائقة (NCSA). كما شارك في تأسيس شركة Netscape Communications، التي لعبت دورًا محوريًا في نشر الإنترنت تجاريًا. لاحقًا، أسّس شركة رأس المال الاستثماري Andreessen Horowitz، التي دعمت شركات تكنولوجيا كبرى مثل فيسبوك (Facebook) وتويتر (Twitter) وآير بي إن بي (Airbnb). يشتهر أندريسن بدفاعه عن الابتكار التقني وبتأثيره في فكر وادي السيليكون (المُترجم).
7. الثورة الخضراء (The Green Revolution): سلسلة من المبادرات العلمية والتكنولوجية بدأت في منتصف القرن العشرين، هدفت إلى زيادة إنتاجية المحاصيل الزراعية، خصوصًا في البلدان النامية، من خلال استخدام بذور محسّنة وراثيًا والأسمدة الكيماوية والمبيدات وتقنيات الري الحديثة. أسهمت هذه الثورة، بقيادة علماء مثل نورمان بورلوغ (Norman Borlaug)، في مضاعفة إنتاج الحبوب في دول مثل الهند والمكسيك، وساعدت على تقليل خطر المجاعات في فترات حرجة. ومع ذلك، تعرضت لانتقادات بسبب آثارها البيئية، وتفاقم الفجوة بين المزارعين الأغنياء والفقراء، واعتماد الزراعة على منتجات كيميائية مكثفة (المُترجم).