سلام القوّة

سلام القوّة
بعد اشتراك أميركا المباشر في ضرب المفاعلات، فإن إيران أمام خيارين: إما الرّد العسكري ولو بشكل محدود، أو القبول بما تعتبره إهانة وطنية واستراتيجية…
لطالما ارتبطت مقولة “سلام الشّجعان” بخطابات القادة في لحظات التحوّل السّياسي والحربي، حيث استُخدمت هذه العبارة لتجميل قرارات صعبة، أو حتى لتمرير اتفاقيات كانت في جوهرها أشبه بإملاءات. استخدمها شارل ديغول عام 1958 عند توليه السّلطة في الجزائر، واقترح على الجزائريين خطة تنمية اقتصادية مقابل وقف الثورة، ووصف مبادرته بـ”سلام الشّجعان”، ولكن الجزائريين رفضوها وواصلوا ثورتهم.
غير أنّ استخدامها على لسان بنيامين نتنياهو والرّئيس الأميركي دونالد ترامب يجعل من كلمة “سلام” كلمة نابية مقزّزة، فهي تأتي بمعنى فرض الاستسلام بقوة تصل إلى الإبادة، كما يجري في قطاع غزّة.
في خطاب كلٍّ منهما عقب تنفيذ الضربات العسكرية على المنشآت النووية الإيرانية قبيل فجر هذا اليوم (الأحد)، تحدّث ترامب ونتنياهو مرارًا عن “السّلام”. لكنّ السّلام المقصود هو استسلام إيران وقبول إملاءاتهما.
قال نتنياهو بعنجهية المستعمر والرجل الأبيض ضد الشّعوب الأدنى: “القوّة تجلب السّلام”، في إشارة إلى أن السّلام المقصود لا يتحقق إلا بفرض شروط المنتصر على المهزوم، دون تفاوض أو تنازلات متبادلة. وهو يعرف أنّ هذه إهانة لا يتقبّلها الفُرس، لكنه بالطبع غير معني ببقاء النظام أصلًا، رغم تصريحاته العديدة التي قال فيها إنه لن يتدخل في تغيير نظام الحكم.
هذا المنطق يُعيد إلى الأذهان سياسات الإخضاع التي عرفها التاريخ الاستعماري، حين كانت القوّة العسكرية الأداة الرئيسية لتركيع الشّعوب، ولم تكن الاتفاقيات سوى طقوس شكلية لتغليف خضوع الجانب الضعيف للقوي. وهذا ما يمارسه بيبي نتنياهو وحكومته ودولة الاحتلال، بشعورٍ بالعظَمة المبالغ فيه.
حاولت إيران من جهتها أن تسلك طريقًا مغايرًا لمعظم دول المنطقة. أرادت أن تكون دولة ذات سيادة حقيقية، ترفض الإملاءات الخارجية، بالسِّر وفي العلن، وتحتفظ بحقّها في استخدام التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية. في الوقت ذاته، فإن أغلب الظّن أنّها كانت تُعدّ ما يلزمها لإنتاج سلاح نووي إذا ما اقتضت الضرورة، ولكنّها لم تُصرّح بذلك، وفتحت مفاعلاتها لرقابة هيئة الطاقة النووية الدّولية.
على الرغم من ذلك، أبدت طهران مرونة لافتة خلال المفاوضات منذ أكثر من عقدين.
وزير خارجيتها عباس عراقجي ألمح قبل الضّربات الأخيرة بساعات، إلى إمكانية خفض نسبة تخصيب اليورانيوم إلى مستويات قريبة من الصفر، دون الوصول إلى الصفر، عندما قال إن إيران لن تقبل أن تصل إلى الصّفر، بمعنى آخر، فهو يلمّح إلى القبول بأي نسبة، ولو كانت واحدًا بالمئة، ولكن ليس الصفر.
وبمعنى آخر، فهو أراد الإبقاء على المفاعلات وعدم تفكيكها أو تدميرها. إلا أنّ هذا لم يكن كافيًا في نظر ترامب ونتنياهو، اللذين طالبا باستسلام كامل غير مشروط، ليس فقط في الملف النووي، بل في مجمل سياسة التسلّح الإيرانية، وسياستها الإقليمية.
الآن، وبعد اشتراك أميركا المباشر في ضرب المفاعلات، فإن إيران أمام خيارين: إما الرّد العسكري ولو بشكل محدود، أو القبول بما تعتبره إهانة وطنية واستراتيجية.
في كلا الخيارين، يبدو “السلام” الذي يزعمه نتنياهو وترامب مجرّد كلام. حتى المعارضون للنّظام في الداخل الإيراني يرفضون منطق الإملاءات الأجنبية، ويعتبرون أنّ ما يجري يستهدف تاريخ إيران وكرامتها، لا سياساتها فقط.
الوضع بعد الضربات الأميركية يجعل إيران تميل إلى خيار الرّد المحسوب بدقّة ضدّ المصالح أو القوات الأميركية في المنطقة، في محاولة لعدم الانزلاق إلى حرب شاملة مع أميركا، وهذه مهمّة معقّدة جدًا، والأرجح أنّها لن تنجح.
صحيح أنّ القوّة تجلب السّلام، ولكن ليس عندما تكون مختلّة بشكل فادح بين المتحاربين.
لو كانت الهند أقوى بكثير من باكستان في مواجهتهما الأخيرة، لما توقّفت الحرب بينهما؛ لقد توقّفت الحرب بالذات لأنّ الطرفين يستطيعان تدمير بعضهما. توازن القوى، أو الاقتراب منه، هو ما يخلق فرصًا للسّلام الحقيقي.
قال فلاديمير لينين، الزعيم الشيوعي، ذات يوم، إنّ “تطور السّلاح سيمنع الحروب في المستقبل”، في إشارة إلى أنّ توازن الرّعب يفرض على الجميع التفكير مليًا قبل الإقدام على استخدام القوة، لأنّ البديل هو دمار الطرفين. وهذا، في الواقع، ما يضمن عدم اشتعال حرب بين الصين وأميركا، أو بين روسيا وأميركا بصورة مباشرة، لأنّ النهاية وبال على الجميع.
في ظل اختلال موازين القوى الفادح، يزداد البطش بطشًا، والظلم ظلمًا. ربما تُجبِرُ القوّةُ الجانب الأضعف على الصّمت في مرحلة ما، لكنها هدنة مؤقتة، تحمل في رحمها حروبًا قادمة.