حرب إسرائيل على إيران… اليوم التالي

حرب إسرائيل على إيران… اليوم التالي
في ظل نشوة “الانتصار” وأجواء الاحتفال السائدة في أوساط المجتمع الإسرائيلي، لا يُستبعد أن يُبادر نتنياهو بنفسه إلى تقديم موعد الانتخابات إلى نهاية العام الجاري، مستغلًّا نتائج الحرب لتعزيز موقعه السياسي، وترميم مكانة حزب الليكود…
بعد مرور اثني عشر يومًا على بدء الهجوم الإسرائيلي على إيران، والذي تم بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأميركية، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، صباح يوم الثلاثاء الموافق 24 حزيران/ يونيو، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران. جاء هذا الإعلان في أعقاب شنّ الطائرات الأميركية، بمشاركة طائرات سلاح الجو الإسرائيلي، ليلة الأحد، ضربات وُصفت بالمدمّرة على عدد من المنشآت النووية الإيرانية، كان أبرزها منشأة فوردو، التي تُعدّ جوهرة التاج في المشروع النووي الإيراني. وقد اعتُبر إلحاق ضرر بالغ بهذه المنشأة شرطًا أساسيًا لوقف المشروع النووي الإيراني أو تعطيله لعدة سنوات.
بعد الضربة التي وُجّهت إلى منشأة فوردو النووية، بدأ الحديث يتزايد، في إسرائيل والولايات المتحدة، حول ضرورة إنهاء الحرب على إيران. فعلى الرغم من تواضع قدرة إيران على ضرب العمق الإسرائيلي، فإن الهجمات الإيرانية ألحقت أضرارًا جسيمة بالبنى التحتية والممتلكات، وأدّت إلى مقتل 28 إسرائيليًا، إضافة إلى شلل شبه كامل في الاقتصاد وتعطيل الحياة اليومية. إطالة أمد الحرب وتحويلها إلى حرب استنزاف لم تكن في مصلحة إسرائيل، خاصة وأن الأهداف العسكرية المُعلنة تحققت إلى حد بعيد. في ظل هذه المعطيات، لم يكن من الصعب على الرئيس الأميركي التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، حتى دون مفاوضات مباشرة بين إيران وإسرائيل، إذ كانت كل من طهران وتل أبيب معنيتين بوقف إطلاق النار في هذه المرحلة.
وقف إطلاق النار رغبة متبادلة
منذ أحداث السابع من أكتوبر 2023، فقدت إيران العديد من روافع القوّة التي عملت على بنائها على مدار عقود، بهدف خلق توازن قوى، أو بالأحرى توازن رعب، مع إسرائيل. وبسبب التفوّق الجوي والاستخباراتي الإسرائيلي، والدعم الأميركي، سعت إيران إلى تعويض هذا الضعف من خلال دعم منظمات عسكرية قريبة جغرافيًّا من إسرائيل، مثل حركة حماس وحزب الله، وإلى حدٍّ ما النظام السوري السابق، لتكون بمثابة أدوات ردع في مواجهة أي هجوم إسرائيلي على منشآتها النووية، وللرّد وقت الحاجة على أي عدوان محتمل.
تراجعت هذه الموارد بشكل كبير خلال العامين الأخيرين، ولم تعد فعّالة كما كانت سابقًا نتيجة الحروب التي شنتها إسرائيل عليها بالتوالي. إذ خاضت إسرائيل سلسلة من الحروب المتتابعة ضد جميع الجبهات التي اعتبرتها تهديدًا، بعد أن نجحت في منع فتح هذه الجبهات بالتوازي، وهو السيناريو الذي اعتُبر كابوسًا إسرائيليًّا في الأيام الأولى التي تلت السابع من أكتوبر 2023. إن ضرب القدرات الاستراتيجية لإيران في المنطقة مهّد الطريق أمام إسرائيل لبدء حربها المباشرة على إيران، وشجّع الإدارة الأميركية على دعمها. في ظل هذه المعطيات، يبدو قبول إيران بوقف إطلاق النار خيارًا منطقيًّا يهدف إلى تقليل الخسائر، وحماية مقدّرات الدولة الإيرانية، سواء العسكرية أو الاقتصادية أو المدنية.
في المقابل، تُدرك إسرائيل أن استمرار الحرب لا يخدم مصالحها، ولن يفضي إلى نتائج تتجاوز ما تم تحقيقه حتى الآن، ما لم يكن إسقاط النظام الإيراني هدفًا واقعيًّا وممكن التنفيذ. وتُدرك إسرائيل الثمن الباهظ الذي قد تدفعه في حال طال أمد الحرب وتحولت إلى حرب استنزاف واستمرّ استهداف العمق الإسرائيلي. كما أنها تدرك التداعيات المحتملة على الاستقرار الإقليمي وعلى الاقتصاد العالمي، خصوصًا إذا تحوّلت الحرب، من وجهة نظر طهران، إلى معركة وجودية تهدّد بقاء النظام نفسه.
نقل نموذج بيروت إلى طهران
وقف إطلاق النار دون اتفاق واضح ودون شروط، يمكن أن يوفّر لإسرائيل حرية العمل العسكري ضد إيران مستقبلًا. فبعد أن كسرت إسرائيل المانع النفسي في توجيه ضربات قاسية للعمق الإيراني، وجرّبت قدراتها في ذلك، وتبيّن أن الأثمان العسكرية محدودة، ستحاول إسرائيل نسخ النموذج السوري واللبناني في إيران أيضًا. بمعنى أنها ستقوم باستمرار الحرب بأدوات أخرى، وتوجيه ضربات في العمق الإيراني، وستعمل على منع إيران من إعادة بناء المنشآت النووية وترميم ما تعرّض للضرر نتيجة العدوان الإسرائيلي. وتحت حجة منع خلق أي تهديد عسكري مستقبلي، ستحاول إسرائيل منع إعادة بناء القدرات الصاروخية لإيران، وربما قدرات عسكرية تقليدية أخرى. فالمجتمع الإسرائيلي سيتقبّل ذلك، خاصة إذا كان دون أثمان أو خسائر، والإدارة الأميركية ستدعم ولو بصمت، والعالم سيعتاد على الاعتداءات الإسرائيلية في إيران.
كما ستسعى إسرائيل، عبر التنسيق مع الولايات المتحدة، إلى فرض اتفاق نووي جديد على إيران، يضمن منع أي محاولة مستقبلية لإعادة ترميم برنامجها النووي، ويُحرِّم تخصيب اليورانيوم بالكامل، فضلًا عن الحد من قدراتها العلمية والتقنية في هذا المجال. إذ لا تقتصر رغبة إسرائيل على احتكار امتلاك السلاح النووي في الشرق الأوسط، بل تتجاوز ذلك إلى السعي لاحتكار المعرفة العلمية والبنية الأكاديمية المتعلّقة بالتكنولوجيا النووية.
هل توفّر الحرب على إيران مخرجًا لإنهاء حرب الإبادة على غزّة؟
تُعدّ الحرب القصيرة والناجحة – من وجهة النظر الإسرائيلية – ذات تداعيات مباشرة على الوضع في قطاع غزّة، حيث بدأت تتعالى أصوات في إسرائيل تدعو إلى استغلال الظرف الإقليمي الجديد، والتراجع في قدرات إيران، من أجل فرض اتفاق لتبادل الأسرى والمخطوفين مع حركة حماس. تقدّر إسرائيل أن حركة حماس باتت الآن دون غطاء إقليمي فعّال، وأنّ قدراتها السياسية والعسكرية تراجعت بشكل كبير، بل إن إمكانية إعادة ترميم قوّتها في المدى المنظور قد تعرّضت لضربة قاسية. في ظل هذه المستجدات، ترى إسرائيل في هذا الواقع فرصة سانحة لفرض اتفاق مع حماس، وفق شروطها ومطالبها.
حتى وإن كان التوصّل إلى اتفاق مع حركة حماس لا يعني “انتصارًا مطلقًا” من وجهة النظر الإسرائيلية، فإن إسرائيل باتت قادرة الآن على تحمّل ذلك، حيث يمكن أن ترى أن الفائدة السياسية والاستراتيجية من التوصّل إلى اتفاق ووقف حرب الإبادة في هذه المرحلة، تفوق كلفة استمرارها. فقد كانت إسرائيل، حتى قبل أسابيع قليلة، تواجه احتمال فرض عقوبات أوروبية – بدعم من بعض أكثر الدول المؤيدة لها داخل الاتحاد الأوروبي – في ظل تراجع حاد في مكانتها الدولية، وهو ما بدأ يُهدّد أيضًا الوضع الاقتصادي. إلى جانب ذلك، تزايدت حدّة الاحتجاجات الداخلية والمطالب بالتوصّل إلى اتفاق بشأن الأسرى والمخطوفين، في ظل الإخفاق المستمرّ في حسم هذا الملف خلال الأشهر الأخيرة.
من غير المستبعد إذًا أن يشهد هذا الملف تقدمًا في الأسابيع القريبة، رغم تهديدات وزراء اليمين المتطرّف، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الذين يلوّحان بتفكيك الحكومة إذا تم التوصّل إلى اتفاق يُفضي إلى وقف الحرب على غزّة.
نتنياهو لا يخشى تقديم موعد الانتخابات
منذ بداية الحرب على إيران، كان واضحًا أن الحسابات السياسية الداخلية شكّلت عنصرًا مركزيًّا في قرار رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بشأن خوض الحرب وتوقيتها. كان واضحًا أن نتنياهو يدخل في مغامرة سياسية، مدفوعًا بالأمل في أن يؤدي نجاح الحرب، وتوجيه ضربات قاسية للمشروع النووي الإيراني، إلى تغيير جذري في مكانته السياسية.
فبعد الوضع الناشئ، وفي ظل نشوة “الانتصار” وأجواء الاحتفال السائدة في أوساط المجتمع الإسرائيلي، لا يُستبعد أن يبادر نتنياهو بنفسه إلى تقديم موعد الانتخابات إلى نهاية العام الجاري، مستغلًّا نتائج الحرب لتعزيز موقعه السياسي، وترميم مكانة حزب الليكود. ويفضّل نتنياهو أن يكون هذا بعد إغلاق ملف الأسرى والمخطوفين في غزّة.
ومع ذلك، من السابق لأوانه استخلاص نتائج قاطعة بشأن مآلات الحرب وتبعاتها الاستراتيجية. فالتاريخ الإسرائيلي والعربي مليء بالأمثلة التي تُحذّر من الإفراط في الثقة؛ إذ إن الهزيمة العربية في حرب حزيران/يونيو 1967، والتي اعتُبرت في حينها “نصرًا ساحقًا” لإسرائيل، كانت مقدّمة لحرب الاستنزاف باهظة الثمن، ومهّدت الطريق لمفاجأة حرب تشرين/أكتوبر 1973.