كتب

أهمية اللغة العربية في صراع الهوية -د.أحمد الجنابيّ

د.أحمد الجنابيّ

أهمية اللغة العربية في صراع الهوية
د.أحمد الجنابيّ
أُلِّفَتْ في صراع اللغة العربية والهوية عشرات الكتب، وكتبت مئات المقالات بعد “استعمار/احتلال” كل بلد عربي، فتعالت الأصوات أثناء الهيمنة العسكرية وأواخرها، وبعيد رحيله وما يخلفه وراءه من الآثار السياسية والثقافية، والتي منها صراع اللغة العربية مع الهوية؛ بل قد ضاع جزء من الهوية بنسب متفاوتة في البلاد العربية، وفي البلاد التي كانت ناطقة بالعربية، وحالة الصراع والضياع أشد وأصعب على المهاجرين العرب فهم منذ عقود يعانون هذه الظاهرة التي أثرت في لغتهم وفي لغة أبنائهم، فإن الأب العربي أينما كان والذي يحرص على هويته اللغوية بتسمية أبنائه بأسماء عربية لم يعد يمكنه أن يحافظ على لسان أبنائه كما حافظ على أسمائهم.
وكأن الحديث عن صراع الهوية واللغة العربية بات قديمًا؛ لأننا اليوم نتحدث عن تراجع للعربية وضياع لها وانهزام وزوال واندثار، وهذه الحالة التي يرثى لها للعربية عند العرب قبل أن يتم الحديث عن عوامل خارجية، وقد لا نحتاج إليها، لأن تعزيز الهوية العربية موكول إلى العرب أنفسهم لا إلى غيرهم، وهي مسألة ذاتية وليست منتقلة، وإذا تجاوزنا العوامل الداخلية فإن ما يكون خارجها لا ولن يستطيع أن يؤثر شيئًا في لغتنا إلا قليلا، وقد اتكل العرب والمسلمون على الحفظ الإلهي للقرآن المنزل بسان عربي مبين، وحفظ القرآن المتعهد به لا يعني بالضرورة حفظ العربية لغةً ولسانًا ناطقًا، فإن الواقع يشهد أن الناطقين بغير العربية حفظوا القرآن الكريم واعتنوا به وهم لا يعرفون شيئًا عن العربية، فهؤلاء الحفظة الذين نعدهم من “جنود الحفظ الإلهي” فصلوا بين القرآن ولغته، فحفظوا النص “العربي” مجردًا عن علوم اللغة العربية فضلًا عن هويتها، ومن هنا أقول: أن على العرب أن يحفظوا لغتهم حفظ هوية وانتماء واعتزاز وفخر، فالعرب والعربية اليوم أمام أزمة ذاتية وتحد كبير تجاوز مرحلة الصراع إلى مراحل أخرى منذرة بالخطر، وماذا بعد الخطر!
والهوية اللغوية مشكلة من مشكلات العرب، فالهوية الغوية إحدى مكونات الهوية الوطنية التي باتت مفككة هي الأخرى في العديد من البلدان والمجتمعات العربية في الوطن العربي وخارجه، فأصبح الحديث عن الهوية الوطنية مقدمًا هذا اليوم على الحديث عن الهوية اللغوية مع ما تعيشه هي الأخرى من صراع وضياع، ولكن الأولويات والخطاب الجامع يحّتم طرح الموضوع الأم وهو هوية الأمة أو الموضوع الأب وهو الهوية الوطنية على الموضوع الابن وهو الهوية الثقافية ومن ثم على الموضوع الحفيد وهو الهوية اللغوية، فظلمت الهوية اللغوية مرات، وتأخر عنها الحديث كثيرًا.
وانشغلت الهوية اللغوية في العناية بالطفل؛ وكأنها قد يئست من الشباب والشيبة، بل تشهد أيامنا هذه عناية كبيرة من الهوية اللغوية بذوي الاحتياجات الخاصة كلغة الإشارة مثلًا وهوية التعبير عنها المختلفة من مجتمع لآخر، وأيضًا كأنها قد يئست من الأصحّاء والسليمين لتجد ضالتها لدى الصم والبكم عسى يكون النهوض بالعربية عن طريقهم، نعم؛ فالجيل الحالي ليس له انتماء للعربية إلا بالاسم، وحتى الاسم العربي بات مهددًا بأسماء دخيلة لا تحملها أوزان اللغة العربية، ولا تعرف لها جذرًا ولا مبنًى ولا معنًى، وكذلك الدرس العربي الذي هو آخر العهد بين العربية والعرب في المدارس أصبح من الدروس الثقيلة المزعجة، إن لم يكن ثانويًا في ترتيب أولويات الدروس والاهتمام بها، فما الذي يجعل العربي متمسكًا بلغته محبًا لها مقدمها على غيرها، ونحن هنا لا نلغي التعددية اللغوية على مستوى العناية الفردية أو المجتمعية ولكن نثير أمرًا من الأهمية بمكان أن يعطى له حقه ومستحقه الشرعي والعرفي والدستوري.
فاللغة الرسمية للبلد موضوع دستوري تنص عليها التشريعات الرسمية في كل بلد، وبلداننا العربية تنص قوانينها على أن العربية هي اللغة الرسمية، وهناك من البلدان العربية ذوات اللغتين أو الثلاث لغات رسميًا، واللغة الأم يجب أن تكون حصتها المادية والمعنوية في الموازنة والتعليم حصة الأسد حتى لا تظلم بالاشتراك اللغوي مع غيرها، والهدف ليس عنصريًا وإنما تواصليًا من أجل أن يلتقي أبناء المجتمع الواحد على لغة عامة مع الاحتفاظ بخصائص لغوية ولهجية أخرى، فالهدف وطني أكثر مما هو لغوي، وكذلك الشأن نفسه في الهدف القومي والأممي للعرب والناطقين بالعربية أينما كانوا وحيثما حلّوا.
وسأضرب مثالين من الواقع الذي عشته والظرف الذي مررت به على مشاكل التعددية اللغوية التي رأيتها، المثال الأول التقيت بشباب عراقيين “كرد” أتوا بعد مرحلة الثانوية لدراسة البكالوريوس في ماليزيا ولغتهم الأم الكردية، واللغة الثانية الإنجليزية، وكفى، ولا شيء للعربية في لسانهم يذكر، فكنت أتواصل معهم بالإنجليزية وهم من أبناء بلدي وجلدتي، والمثال الثاني التقيت بطلاب جامعة في إحدى الدول الخليجية في مجلس عام وإذا بي وبهم نتواصل باللغة الإنجليزية بدءًا بكيف حالك وانتهاءً بالسلام عليكم، ولم يشفع لنا زيّنا العربي الذي كنا نرتديه بأن يسعفنا بشيء من العربية التواصلية، وتبين لي أن أمهاتهم موظفات، وأن مربياتهم ناطقات بالإنجليزية، ومدارسهم كذلك، وأصدقاؤهم أجانب، فمن أين تأيتهم العربية إذن؟
وعجبي أن الدول الحديثة اليوم تثير موضوع لغة السكان الأصليين للبلد، وهناك يوم عالمي لظلم السكان الأصليين في الدول الحديثة، ويثار فيه وفيها موضوع “اللغة الأصلية” وأنها حق ثابت ومصيري وثقافة واجبة الدعم، ويعدون شيوع لغة أو لغات أخرى في بلد هو تعد على الهوية اللغوية وطمس لها وتمييز سافر، ويصفون هذا الوضع بأنه إبادة ثقافية ودمج قسري، وهذا ما لم تشعر به الدول العربية إلى اليوم شعورًا سياسيًا ذا قرارات وأحكام وتطبيقات، أما على مستوى المؤتمرات والندوات والمقالات والبحوث فهو مشعور به في الوطن العربي، ولكن بتوصيات أقل ما توصف به أنها حبر على ورق، وقد سمعت أيضًا أن بعض الدول الغربية اليوم ترى أن الحديث بلغة أخرى في بلادها يشكل: “إرهابًا لغويًا” لا تسمح فيه ولن تقبل به، ولاسيما عند الإصرار على التكلم بلغة ما، كأن تصر على التحدث بالعربية مع مهاجر عربي في فرنسا أو كندا مثلًا، فالقانون يمنعك، وإن كنتما عربيين، أو تجيدان التحدث بالعربية، فما دمت أنك في فرنسا فتتحدث الفرنسية، وما دمت في كندا فتتحدث الإنجليزية، وهكذا، إلا في البلاد العربية فالحقوق غير محفوظة.
ومن هنا لا يمكن أن تكون العمالة الوافدة هي الراعي الاجتماعي للهوية اللغوية في البلد، فبدل أن يتعلموا العربية في بيئات عربية أخذوا ينشرون لغاتهم أو عربيتهم المكسرة بين الناس، فيتواصل الناس معهم بكل شيء عدا العربية السليمة إن لم نقل الفصيحة، فالعربي اليوم في بلاده “متعجّم” في لغته وتواصله، وما يحصل عليه من “تعرّب” في التعليم وبعض الإعلام لا يكفي حاجته، ولا يعزز هويته، وهذا هو الفرق بين الهوية اللغوية في البلاد العربية وغيرها.
إن صراع الهوية اللغوية في البلاد العربية تعدى مرحلة التحذير إلى مرحلة الخطر، فقد اتسع الصراع وتعمق، وهو آخذ كل يوم بمزيد من الانحسار، فقد أصبحت الهوية اللغوية العربية هوية أقلية في أنحاء من الوطن العربي، وهذا هو الواقع، فكم من المتحمسين أو المدافعين عن اللغة العربية في الوطن العربي؟ إنهم على عدد أصابع اليد الواحدة في كل بلد عربي، وسفينة التغريب جارية في الصحراء العربية انتماءً وثقافةً ولغةً وأسلوب حياة.
بينما نجد اليوم ناطقين بالعربية من غير العرب معتزين بهذه الهوية اللغوية وفخورين بها ومفضليها على لغاتهم الأم والأخرى، في حين نجد عربًا متجردين قدر ما يمكن من الهوية اللغوية في تعزيز اكتسابهم للغات الأخرى والتمكن منها لكي تكون لغتهم الرسمية في المدارس والمجالس وغيرهما، فصحيح أن أكثر علماء العربية من العجم ولكن علم العربية غير هويتها، فالعربية كعلم تدرس في الجامعات العالمية، ولكن الهوية ليس لها مكان إلا في نفس العربي وفي بيئته ومجتمعه وبلده، فالاهتمام العالمي بالعربية كلغة لا يعني الاهتمام بها كهوية، وهذا ما يجب أن لا يفوت بالنا، ونحن نتحدث عن اليوم العالمي للغة العربية على سبيل المثال، فإن العرب اليوم لديهم عيد يفرحون به في “يوم عالمي” يجعلونه للغة العربية ويفخرون به ويتفاخرون، وهو اليوم الذي شاركت فيه اللغة العربية بعض اللغات العالمية في محافل الأمم المتحدة، فكان إنجازًا عربيًا لا مثيل له ولا قبل به، وحق للعرب ذلك لأن هذا اليوم وما بني عليه كان فيه رد بعض الحقوق للغة العربية في المحيط العالمي، وكان فيه تعزيزًا للهوية اللغوية لمن يحضر اجتماعات الأمم المتحدة ومؤتمراتها من العرب، وكان فيه متنفسًا لكل عام يعبر فيه الخطباء والمتكلمون والكتّاب والناشرون والمغردون عن أهمية اللغة العربية، ويدقون جرس الخطر مرة أخرى، ويدعون إلى تعزيز هويتها وتعميق الانتماء إليها، فهي مناسبة سنوية تنفع ولا تضر، ولكنها ليست من الهوية في شيء، اليوم العالمي يتحدث عن لغة من اللغات لها ناطقون من الناس، ولكن ليس هناك أية إشارة للهوية اللغوية التي يجب أن يعززها العرب بأنفسهم لا عن طريق الأمم المتحدة ولا عن طريق غيرها ولا آخرين، هوية لغوية يقرونها فيما بينهم ومن ثم يفرحون بها ويتفاخرون حينما يأتي ذكر الهوية اللغوية بين اللغات في ثقافات العالم.
بقي لي أن أشير إلى مسألتين، إحداهما تتعلق بالعربية نفسها والأخرى تتعلق بالناطق بها، فأما العربية فهي بحد ذاتها لغة هوية جامعة، تجمع ولا تفرق، وباستطاعتها أن تثري الكلام بأوزان ومبان ومعان لا يحتاج إلى غيرها من اللغات، وهي لغة حية، تأخذ بشروط، وتعطي بلا شروط، فهي لا تدخل عليها إلا بجواز مرور صالح للاستعمال من الكلمات والألفاظ بعد إخضاعه لفحص وتمحيص، وتعديل إن تطلب الأمر، وتفتح الباب على مصراعيه أمام اللغات الأخرى لكي تقترض منها وتأخذ ما تشاء، ولهذه العربية خصوصيات لا تجدها في اللغات الأخرى فبالتالي فإن هويتها أيضًا ذات خصوصية، بمفاهيمها ودلالاتها ووضعها وإشارتها ومضامينها وسياقاتها…إلخ، فمن حق الهوية أن تحتفظ بخصائص اللغة التي تنتمي إليها والتي تمثلها.
وأما المسألة الأخرى فهي خطابي للأخ العربيّ أينما كان، في تساؤل عام مفاده: ماذا بقي لك “عربيًا” تتميز به غير اللغة؟ فهي الهوية الباقية بعد أن ضاعت هويات كثيرة من العرب الحاضرة، وهذه الهوية يحسدك عليها مسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ناطقون بغير العربية أكثر من مليار ونصف المليار كلهم يتمنى هذا اللسان لكي يقرأ به النص القرآني العربي أو يفهمه أو يتدبره بلغة مباشرة لا بترجمات معاني على هامش النص وحاشيته، مليار ونصف المليار أو يزيد متطلع لقراءة مباشرة للتراث العربي والإسلامي بعد أن أبهرته الترجمات منها القديمة والحديثة، ذلكم المليار والنصف والأزيد عليه يحرص أن يكون له هذا اللسان العربي حتى لا يتتعتع في دعائه وصلاته وتلاوته للقرآن وعباداته القولية من الأذكار وغيرها، المليار والنصف وزيادة من الناس محرومون من نطق التحية من غير لحن أو تفخيم أو إمالة أو تسهيل، يحاولون أن يقولوا: “السلام عليكم” كما يقولها العربيّ.
أرجو وآمل أن تجد العربية كهوية وليس كلغة من يعير لها بالًا، ويسعى لها جهدًا، ويقدم لها فضلًا، ويعزز لها شأنًا، ويقر لها أمرًا، وما ذلك بعزيز على أهلها ومحبيها والغيورين عليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب