جناح فراشة يعيد هندسة ثقافة الشعوب

جناح فراشة يعيد هندسة ثقافة الشعوب
نعيمة عبد الجواد
٭ أكاديمية مصرية
هل تعلم أن جناح أي فراشة يمتلك قدرة خارقة لدرجة أنه قد يغير ليس فقط ثقافة أفراد بل أمم بأكملها، ويعيد هندسة التاريخ؟ ما يحدث هو أن أقَّل تغيير في حركة أو مسار الأشياء في الكون قد ينجم عنه نتائج كارثية أو على النقيض تمامًا، رائعة. ونظرية تأثير جناح الفراشة، التي أصبحت الأساس في نظرية «الفوضى في الميكانيكا والرياضيات»، ظهرت في ستينيات القرن الماضي، وبالتحديد عام 1963، عندما ناقش عالم الأرصاد الجوِّية وأستاذ الرياضيات إدوار لورينز Edward Lorenz الذي يعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، النتائج التي توصَّل لها في ورقته البحثية التي عنونها «التدفُّق غير الدوري الحتمي»، ومن عنوان الورقة البحثية يتم التوكيد على أن أشياء قد تحدث في مسارها الطبيعي «حتميًّا»، لكن تغييرًا طفيفًا قد يحدث ويغيِّر المسارات «غير الدورية».
وما حدث هو أن العالم إدوار لورينز، كان يعمل على بحث لاختبار نموذج حاسوبي مصمَّم لمحاكاة أنماط الطقس المختلفة. وعندما رغب في تكرار التجربة، قام بتقريب الرقم الذي توصَّل له، بأن حذف كسورًا من حركة الرياح تقدَّر بأجزاء من المائة ألف. لكن ما حدث هو أن النتائج كانت مختلفة تمامًا، وأن ذلك التغيير الطفيف في حركة برنامج المحاكاة أعطى نتائج مغايرة لسابقتها.
ومع دراسة كل تغيير طفيف يحدث في النتائج، قام لورينز بعمل رسم بياني يوضِّح حلول المعادلات ومنها النتائج، في كل مرَّة، فكانت النتيجة أن حصل على مسارات بيضاوية متشابكة تشابه شكل الفراشة. وبطرح الفكرة على نطاق أوسع عام 1972، وبالتحديد في مؤتمر للجمعية الأمريكية لتقدم العلوم، وكان عنوان المحاضرة «القدرة على التنبؤ: هل يؤدي رفرفة أجنحة فراشة في البرازيل إلى إعصار في تكساس؟»، ومنذ ذاك الوقت أُطلق على النظرية اسم «جناح الفراشة»، ودعَّم التسمية أن الأرقام العشرية الطفيفة التي قد يغفلها أي فرد في التجارب أو النتائج تضاهي حركة جناح فراشة في ظروف مختلفة؛ لأن الهواء السَّاخن الذي يتم تحريكه قد يسقط على بيئات مختلفة من شأنها إطفاء حرائق، أو إنقاذ أمم من الجفاف، أو حلول براكين أو أعاصير قد تدمِّر حضارات بأكملها، وأكبر دليل على هذا «الطوفان العظيم» الذي تناولته جميع الكتب السماوية.
وذاك السلوك العشوائي في حركة الأشياء داخل الكون يأتي معاكسًا لاكتشافات عالم الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الفلك الإنجليزي الجنسية إسحق نيوتن Isaac Newton (1634-1727)، وتاليًا له نظيره الفرنسي بيير سيمون لابلاس Pierre-Simon Laplace؛ وكان كلاهما يؤكِّدان أنه يمكن التنبُّؤ بالمستقبل من خلال عمل حسابات رياضية دقيقة. المفارقة الكبرى أن هذا الزعم حقيقي، وهناك دلائل عديدة تؤكِّد فرضيتهما، لكن أي تغيير عشوائي مفاجئ يقلب مقادير الأمور. ولعل أكبر دليل على ذلك ما حدث لإسحاق نيوتن نفسه، الذي دفعه لاكتشاف الجاذبية بعد أن سقطت على رأسه تفاحة من الشجرة التي كان يستريح تحتها؛ فسقوط التفاحة بالفعل مقدَّر، لكن بتحليل الموقف يتَّضح أن وقت الوقوع وسرعة السقوط تحكمهما عوامل كثيرة، ما يؤثِّر على الحسابات الرياضية والميكانيكية لحركة التفَّاحة. ناهيك عمَّا كان ربما يحدث لنيوتن ذاته إذا لم يخرج من معمله، أو يتأخَّر اكتشافة يومًا واحداً، أو حتى لم تسقط التفاحة عليه، مما كان يؤخِّر أبحاثه سنوات عدَّة، وبالتالي لكان تأخَّر رقي الحضارة الإنسانية.
وتعج الثقافة الشعبية وحركة التاريخ بالعديد من الأمثلة الواقعية التي تدُّل على أن نظرية التغييرات العشوائية أو ما يُطلق عليها «نظرية تأثير الفراشة» هي حقيقة وأمر ثابت. ولعل أبرز الأمثلة قديمًا هو اكتشاف النَّار، الذي أفضى إلى الثورات الصناعية المختلفة التي كانت سببًا لانتقال الإنسان من حياة الكهوف إلى اختراق الفضاء الخارجي.
وأصدق دليل على ذلك هو مثال انحراف سيَّارة ولي عهد إمبراطورية النمسا والمجر الأرشيدوق فرانز فرديناند Franz Ferdinand عن مسارها عام 1914 الذي كان سببًا مباشرًا لما يحدث في عالمنا الحالي من عداوات وتحالفات وكذلك تقدُّم مذهل. فلقد حدث أن الشعب الصربي قد ثار على الظلم الذي يتعرَّض له، ولذلك خططت جماعة سرِّية لاغتيال ولي عهد الإمبراطورية. وبالفعل، ينتظره القاتل في أحد الأماكن التي من المقرر مرور ولي عهد النمسا بها في سيارته المكشوفة. وتشاء الأقدار أن ينجو فرانز فرديناند من محاولة الاغتيال؛ لأن القنبلة التي تم إلقاؤها على سيارته ارتدَّت للوراء ولم تصب إلَّا بضعة من الحاشية. لكن إصرار الأرشيدوق أن يقوم بزيارة أحد الضبَّاط المصابين في المستشفي بعد نهاية اليوم، وضعته وجهاً لوجه مع من حاول اغتياله في الصباح، ما حوَّله هدفًا سائغًا أمام القاتل، فاغتاله بكل سهولة.
وهذه الحادثة، التي تظهر وكأَّنها عرضية، كانت سببًا مباشرًا لاندلاع الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك الحرب العالمية الثانية والتي لم تكن سببًا مباشرًا فقط في موت أكثر من مليون شخص حول العالم، بل أيضًا أساسًا للتنوير والتقدُّم العلمي. فلقد أصبحت ألمانيا تحت قيادة هتلر تهتم بالتقدُّم والبحث العلمي بطريقة غير مسبوقة، وصار للعلماء مكانة خاصة ومرموقة ومتاحاً أمامهم جميع الموارد وطلباتهم أصبحت أوامر مُجابة، وكان الهدف من ذلك تطوير الآلة الحربية، وتحقيق الهيمنة على العالم من خلال التقدُّم التكنولوجي، وقبل أيٍّ من هذين الهدفين، تخليق الإنسان «السوبرمان» ذي الجسد السليم والعقل الألمعي. ومن ثمَّ، تطوَّر مجال الطب والعقاقير الطبية، ويكفي القول إن الكثير من الأدوية المتاحة حاليًا في الأسواق هي نتاج لمجهود علماء في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. وأمَّا مجال الميكانيكا والهندسة، فلقد شهد تطوُّرًا فاعلًا، لدرجة أن الطموح لاستكشاف الفضاء وصنع مكُّوك الفضاء هو بالأساس طموح واختراع نشأ في حقبة ألمانيا الهتلرية.
ولولا هزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية، وتقسيم تركته من العلوم والاكتشافات بين الدول المنتصرة في الحرب، لكان جميع ما نشهده من تطوُّر تكنولوجي مُتسارع في الوقت الحالي قد تأخَّر عقوداً طويلة، وهذا لكونه جبيس جدران ألمانيا النَّازية. وأيضًا بسبب المصابين في الحرب، تقدَّمت العمليات الجراحية وأسس الاستشفاء والشفاء، قد لا يصدِّق البعض، عمليات التجميل بأشكالها وألوانها؛ أي أن الحرب لم تسفر عن نتائج سلبية فقط.
وهذا فقط في عالم العلوم والتكنولوجيا. لكن أيضًا بالنظر لعالم الأدب، فلقد تغيَّرت الاهتمامات الفلسفية والخطاب الفلسفي، وأصبحت الروايات والمسرحيات والقصص، على اختلاف ألوانها، تهتم بمسارين وتحاول أن تبرزهما، ألا وهما الأمراض النفسية التي تصيب الإنسان الحديث من جرَّاء أحداث العالم المتسارعة والمتصارعة، وكذلك التوكيد على أهمية إفساح المجال لخطاب الحرِّية وعدم المصادرة على الآراء والتيَّارات الشخصية الناشئة.
ووسط كل هذا الجدل الدائر، علا صوت تيَّار الشعوبية ومحاولة التوكيد على إبراز الهوية القومية؛ ولذلك مُنح المهمشون صوتًا ومنابر للدفاع عن قضاياهم وما يمرُّون به من أهوال. وكل ذلك حدث لمجرَّد انحراف سيارة ولي عهد النمسا عن المسار المحدد لها وكسره للبرنامج الموضوع له.
وهكذا تحدث الأمور دائمًا، فأقلّ حادث عرضي يفضي إلى تغيُّرات جوهرية، ولا يقتصر هذا على المجال السياسي أو العلمي، بل المجال الإبداعي على وجه الخصوص؛ فالكثير من القامات الأدبية العالمية كانوا نتاجًا مباشرًا لجناح الفراشة؛ فلو لم تحك جدَّة الكاتب الكولومبي غابريل جارسيا مركيز له حكاياتها التي تعجّ بالمواقف الأسطورية التي لا يصدِّقها عقل، لم يكن لينشأ تيَّار الواقعية السحرية. وأيضًا، لو لم يقرر والدا الكاتب العالمي نجيب محفوظ العيش في حي الجمَّالية، لربما كان قد اندثر تاريخ الفتوات والحرافيش كغيره من الحوادث التاريخية المهمة التي صارت حبيسة الكتب وعقول الباحثين وبضعة من المثقَّفين.
نظرية «جناح الفراشة» توضِّح أن لأي حادث سببًا قد أثاره بشكل أو بآخر، إلَّا أن السبب الرئيسي في نشوء هذا الحادث يظل غامضًا ورهينًا لنظرية العشوائية Chaos Theory التي لا ينكر العلماء وجودها، ولا يستطيعون أيضًا التنبؤ بوجود أي انحراف عن المسار الحتمي المقرر لها؛ وتلك هي المعضلة المباشرة التي على أساسها تتطوَّر حضارات الشعوب تبعًا لأحداث قد يتم طرحها لإعادة هندستها وهيكلتها للوصول إلى غاية لا يعلمها إلَّا أوَّل فرد أو كيان ابتدعها للوصول للنتائج المرجوَّة.