تحقيقات وتقارير

سياسة الغموض النووي: ماذا ستفعل طهران الآن؟

سياسة الغموض النووي: ماذا ستفعل طهران الآن؟

طهران ـ  بينما تتجه الأنظار إلى النرويج، حيث من المتوقع أن تعقد الجولة الأولى من المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة منذ اندلاع “حرب الـ12 يوما”، تتبنى طهران استراتيجية محسوبة في التعامل مع ملفها النووي، قائمة على ما يسميه البعض بـ”سياسة الغموض النووي”.
فرغم ما تشير إليه بعض التحليلات بأن واشنطن تسعى إلى فتح قنوات حوار لاحتواء تداعيات الحرب الأخيرة، إلا أن إيران قررت المضي في مسار تصعيدي محسوب عبر إقرار قانون جديد يعلق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذلك بعد الهجوم الأمريكي-الإسرائيلي على منشآتها النووية.
الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، صادق على القانون الذي أقره البرلمان الإيراني، والذي يقضي بتعليق العمل بالبروتوكولات المرتبطة بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية “NPT” وضماناتها، إلى حين استيفاء شروط محددة.
وتشمل هذه الشروط: ضمان أمن المنشآت النووية، وتوفير الحماية لعلماء الذرة الإيرانيين، ووقف الأعمال العدائية تجاه البنية التحتية النووية.
إقرار هذا القانون جاء كرد فعل مباشر على الضربات الجوية التي استهدفت منشآت رئيسية مثل فوردو، ونطنز، وأصفهان والتي ما تزال الأضرار التي لحقت بها غير واضحة بالكامل في ظل تعتيم رسمي متعمد.
وبعد دخول القانون حيز التنفيذ، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قطع العلاقات مؤقتا مع طهران. وغادر فريق مفتشيها الأراضي الإيرانية براً يوم الجمعة الماضي، متجهين نحو فيينا من دون أن يسمح لهم بزيارة المواقع النووية منذ الضربة قبل أسبوعين.
الخطوة التي اتخذتها إيران أثارت ردود فعل دولية، خاصة أن الأمر يتزامن مع اتهام مجلس محافظي الوكالة لطهران بعدم الالتزام بالضمانات النووية. وجاء هذا القرار بناء على تقرير المدير العام رافائيل غروسي، الذي أشار إلى أن إيران باتت تمتلك ما يزيد عن 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، وهي كمية تكفي نظرياً لإنتاج نحو 10 قنابل نووية.

غروسي شريكاً في التصعيد

في طهران، لم تخف السلطات غضبها من موقف الوكالة ومديرها، إذ يرى المسؤولون الإيرانيون أن غروسي ساهم بشكل غير مباشر في إشعال فتيل الحرب عبر تقارير “مسيسة وغير واقعية” حسب وصفهم، بشأن برنامج إيران النووي.
وصرح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي: “ليس لدينا عداء مع المنظمات الدولية، ولكن مواطنينا غاضبون من موقف وكالة الطاقة الذرية. كنا نتوقع منها إدانة الاعتداء على منشآتنا النووية، لكنها لم تفعل”.
في ظل هذه المستجدات، دخل البرنامج النووي الإيراني مرحلة جديدة من العمل بعيداً عن الرقابة الدولية، حيث يظهر الواقع في طهران أن المعلومات حول المدى الحقيقي للأضرار، أو مستوى استئناف العمليات في المنشآت المتضررة، أصبحت محصورة في دوائر عليا من النظام.
ويقول رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامي: “الهجمات على منشآتنا أثبتت أن منطق الغابة هو السائد في العالم. وإذا لم نكن أقوياء، لن نبقى. الشعب الإيراني فهم هذه الحقيقة جيداً”.
كما وصف الضربات الأمريكية بأنها انتهاك مباشر لميثاق الأمم المتحدة، مؤكداً أن البرنامج النووي الإيراني سيستمر ولن يتوقف رغم كل الظروف.
الباحث في الشأن الإيراني، مصطفى نجفي، يرى أن تعليق العمل مع الوكالة هو الخطوة الأولى في إطار سياسة الغموض النووي، والتي تهدف إلى زيادة الشكوك حول قدرات إيران الحقيقية على التعافي وإعادة بناء منشآتها المتضررة.
ويضيف نجفي: “هذه الاستراتيجية تمنح إيران ميزة تفاوضية. فهي تظهر نفسها وكأنها في موقف ضعف، بينما في الواقع تعقد من حسابات الطرف الآخر الذي لا يعرف ما إذا كانت طهران تمتلك أوراقاً سرية أم لا”.
ويتابع نجفي: “نجاح سياسة الغموض النووي يتطلب إدارة دقيقة ومتكاملة على المستويين الدبلوماسي والأمني، كما يحتاج إلى خطاب داخلي موحد ومنضبط”.

ما مصير منشأة فوردو؟

عرّاب السياسة النووية الجديدة هو كبير المفاوضين الإيرانيين ووزير الخارجية الحالي عباس عراقجي، الذي تحدث للإعلام الأمريكي رداً على تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي قال إن الضربات الأخيرة “قضت نهائياً على البرنامج النووي الإيراني”.
جاء رد عراقجي بنبرة محسوبة: “لا أحد يعلم بالضبط ماذا حدث في منشأة فوردو. يبدو أنها غير قابلة للتشغيل حالياً. الأضرار جسيمة، والهيئة ما تزال تقيم الوضع لمعرفة إمكانية إعادة تشغيلها”.
يضيف عراقجي أن السياسة النووية الإيرانية قيد التطوير الآن، مع التمسك بحق بلاده في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية: “دفعنا ثمناً باهظاً من العقوبات والدماء لأجل هذا البرنامج، لقد تحملنا حرباً لفترة الـ12يوما، فأضيف عامل مهم إلى ما سبق من تضحيات شعبنا من أجل إنتاج اليورانيوم المخصب بأنفسنا، وهذا هو شرف وفخر وطني ولا يمكن التخلي عنه بسهولة، من المؤكد أننا سنحتفظ بهذا الحق ونسعى لذلك”.
أما الجماعات المتشددة من التيار المحافظ، فما زالت تؤكد على عدم التفاوض مع واشنطن، وإن كان ذلك ضرورة لابد منها فيجب على الفريق التفاوضي الإيراني أن يأخذ معه ورقة القنبلة النووية، ويشرح الكاتب عبدالله كنجي: “في أي مفاوضات مستقبلية محتملة، ما ينبغي على إيران طرحه على الطاولة هو خيار التخصيب أو القنبلة النووية، لأننا شهدنا القصف وهذا يعطينا الحق في ذلك”.
على الرغم من التصعيد، يبرز تيار داخل النظام السياسي الإيراني يدعو إلى ضبط النفس والابتعاد عن الانفعالات ما بعد الضربات، والانخراط في مسار تفاوضي عقلاني.
الدبلوماسي المخضرم حميد أبوطالبي، دعا الرئيس مسعود بزشكيان إلى تهدئة المشاعر العامة واتخاذ قرارات مدروسة: “تحييد الأجواء العاطفية من مستويات صنع القرار في السياسة الخارجية ضرورة حتمية في الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد”.
من جانبه، انتقد السياسي الإصلاحي أحمد زيدآبادي، أسلوب الحكومة الغامض: “يتحدث المسؤولون كثيراً عما لن يفعلوه، لكنهم لا يوضحون ما الذي سيفعلونه فعلاً. الناس يريدون رؤية خريطة طريق واضحة”.
الباحث الاجتماعي والمحلل السياسي عباس عبدي، يرى أن إيران في مفترق طرق: “إذا أرادت إيران العمل ضمن النظام الدولي، فلا يمكنها تجاوز قواعده. هي تسعى أحياناً للاندماج فيه، لكنها أيضا تتحدى أساساته، وهو ما يجعلها تدفع ثمن العزلة ولا تنال مكاسب الاندماج”.

غموض نووي وانفتاح دبلوماسي!

رغم قانون البرلمان الذي يقيد التعاون مع الوكالة، إلا أن الباب لا يزال مفتوحاً أمام الدبلوماسية، إذ يجيز نفس القانون للمجلس الأعلى للأمن القومي العمل مع الوكالة الدولية في حال وجود مصلحة وطنية.
وهذا ما ألمح إليه عراقجي مؤخراً، حين قال: “لا تزال إيران ملتزمة بمعاهدة حظر الانتشار النووي واتفاقية الضمانات. قرار وقف التعاون جاء لأسباب أمنية، ولكن تنظيم التعاون في المستقبل سيكون حصرياً بيد المجلس الأعلى للأمن القومي”.
وفي بيان رسمي، دعا الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي الحكومة إلى طمأنة الشارع الإيراني، وفتح آفاق جديدة للتنمية عبر الحوار، قائلاً: “رغم التحديات، إلا أن أيدي إيران ليست مكبلة أمام الحوار البناء وحل القضايا المعقدة”.
وأشار إلى أن التلاحم الوطني الذي أظهره الشعب الإيراني في مواجهة العدوان شكل عامل ردع أساسي، ومنع إسرائيل من تحقيق أهدافها، مؤكداً أن الوحدة الوطنية هي كنز ثمين يجب استثماره سياسياً.
ويختم خاتمي وهو من كبار داعمي حكومة بزشكيان: “أظهرت طهران خلال مراحل الدخول في المفاوضات السابقة، رغم يقظتها، أنها ترحب دوماً بأي مفاوضات عادلة قد تؤدي إلى حلول تلبي بشكل معقول رغبات الطرف الآخر”.

بين التصعيد والانفتاح الحذر

في ضوء التحولات المتسارعة بعد حرب الـ12 يوماً، يبدو أن إيران تسير على حبل مشدود بين التصعيد النووي والانفتاح الدبلوماسي. فبينما تعتمد سياسة الغموض النووي كورقة ضغط في مواجهة خصومها، فإنها في الوقت ذاته تبقي نافذة التفاوض مفتوحة، مدركة أن الحلول الدائمة لا تصنع في ميادين القتال فحسب، بل على طاولات الحوار.
المعادلة التي تحاول طهران ضبطها اليوم تقوم على الحفاظ على هيبتها النووية والسيادية، دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي. وفي ظل هذه التوازنات الدقيقة، سيكون لأي قرار تتخذه القيادة الإيرانية خلال الأيام المقبلة، أثر بالغ في تحديد ملامح المرحلة القادمة من العلاقات الدولية مع طهران، ومدى قدرتها على استعادة موقعها الإقليمي والدولي في عالم ما بعد الحرب.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب