عن الخليج وإيران… فرص التعاون

عن الخليج وإيران… فرص التعاون
عمرو حمزاوي
كاتب مصري
منظورا إليه من منطقتنا، رحب العدد الأكبر من العواصم الإقليمية في الشرق الأوسط، وهي جميعا تتمتّع دون استثناء بعلاقات اقتصادية وتجارية وطيدة مع بكين، بالانخراط الصيني المتزايد في المساعي الرامية للتوصّل إلى حلول سلمية لنزاعات المنطقة والعمل على إرساء ترتيبات أمنية دائمة فيها. ولهذا السبب، اكتسبت الوساطة الصينية بين السعودية وإيران اللتين اتفقتا على استئناف العلاقات الدبلوماسية وإعلان الالتزام المتبادل بمبدأ عدم التدخل في شؤون الغير واحترام السيادة الوطنية أهمية كبرى.
واقع الحال أن الخصومة الإقليمية بين السعودية وإيران رسمت معالم معظم الصراعات التي دارت رحاها خلال السنوات الماضية. فقد خلّفت كارثة إنسانية كبرى في اليمن بعد اندلاع الحرب بين ميليشيات الحوثيين الموالية لإيران والقوى المتحالفة مع السعودية وتسبّبت بحالة مزمنة من انعدام الاستقرار في العراق، وأشعلت أزمة مستمرة في لبنان، وحالت بالتزامن مع عوامل أخرى دون التوصّل إلى حل سياسي تفاوضي للنزاع في سوريا.
وإضافةً إلى مفاقمة الأزمات في هذه الدول التي تمزّقها الصراعات، هدّدت الخصومة بين السعودية وإيران الاستقرار الأمني الهش في منطقة الخليج، وأظهرت محدودية فاعلية الضمانات الأمنية التي توفّرها الولايات المتحدة لحلفائها العرب حين شنّ الحوثيون، حلفاء إيران، هجمات بالطائرات المسيّرة والصواريخ على منشآت نفطية ومواقع استراتيجية أخرى في السعودية وحاولوا أيضا الاعتداء على الأراضي الإماراتية.
في التحليل الأخير، دلل تهديد الاستقرار الأمني الهش في منطقة الخليج عبر أفعال إيران وميليشياتها على احتياج العرب لتوسيع دوائر الضمانات الأمنية إن بتقوية أواصر التنسيق العربي أو باستدعاء وسطاء دوليين آخرين أو بالانفتاح على تفاهمات تفاوضية مع نظام الجمهورية الإسلامية دون نسيان ماضي تنصلها من اتفاقات سابقة ودون توقع تغيرات جذرية وسريعة في السياسات الإيرانية أو بالعمل على أكثر من مستوى من هذه المستويات الثلاثة.
وواقع الأمر أن ثمة تفضيلا استراتيجيا خليجيا، بقيادة الرياض وأبو ظبي لاستدعاء الصين كقوة كبرى للوساطة ولتقديم ضمانات أمنية إضافية إلى جانب (وليس خصما من) الضمانات الأمريكية، وللانفتاح على التفاوض مع حكام طهران بهدف دفعهم للتغيير التراكمي والتدريجي لسياساتهم بعد سنوات من التوتر والنزاع والصراع في ساحات إقليمية متنوعة.
فقد أشعلت إيران بدعمها للحوثيين فتيل الحرب الأهلية في اليمن ومازالت توظفهم على الرغم من الهدنة القائمة كورقة ضغط قادرة على تقويض الاستقرار الداخلي بين صنعاء وعدن وعلى تهديد الأمن الإقليمي. وفي العراق، تواصل إيران الضغط على القوى الشيعية المتحالفة معها لإبعاد بلاد الرافدين عن محيطها العربي والإبقاء على أوضاعه الداخلية دون استقرار طويل المدى يمكن من حل أزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. تفعل إيران ذلك، على الرغم من مساعي الحكومة العراقية السابقة والحكومة الحالية للحد من نفوذ نظام الجمهورية الإسلامية والانفتاح على تنسيق استراتيجي وسياسي واقتصادي مع البلدان العربية، خاصة مصر والأردن.
رحب العدد الأكبر من العواصم الإقليمية في الشرق الأوسط، بالانخراط الصيني المتزايد في المساعي الرامية للتوصّل إلى حلول سلمية
وفي لبنان، تتدخل إيران من خلال حزب الله لفرض حليفها المسلح طرفا مهيمنا على السلطة التشريعية والتنفيذية ومسيطرا على حياة سياسية طائفية وفاسدة وفاشلة أودت بالمجتمع والاقتصاد إلى الهاوية. أما في سوريا، فلا يملك النظام الإيراني غير تقديم الدعم العسكري واللوجيستي للحكومة وتوظيف أراضيها، في المقابل، لزيادة أوراقه الاستراتيجية في الصراع المستمر مع إسرائيل. وفيما خص الخليج، ودوما ما نظرت إليه إيران إن في سياق الخصومة الإقليمية مع السعودية من جهة أو بربطه بصراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى كمجال لمد نفوذها ومناوئة وجود واشنطن العسكري وضماناتها الأمنية، لم يتورع حكام طهران عن تهديد استقرار البلدان العربية من خلال التدخل في شؤونها ونشر الشيعية السياسية وتوظيف ميليشياتهم للقيام بأعمال عسكرية معادية.
واقع الأمر أن في جعبة الصين مجموعة من أوراق الضغط الهامة. فهي، أولا، الشريك الاقتصادي والتجاري رقم واحد للجمهورية الإسلامية والمستورد رقم واحد لنفطها والباب الكبير المفتوح (بالإضافة إلى الباب الروسي) للحد من العزلة الدولية لنظامها. كذلك يتعاون البلدان عسكريا وتكنولوجيا في سياقات عديدة، على الرغم من حرص الصين على عدم الاصطدام بالعقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على إيران. تملك الصين في علاقتها مع إيران، ثانيا، وزن القوة الكبرى التي تربطها بالسعودية وبقية الدول العربية في الخليج علاقات اقتصادية وتجارية وتكنولوجية متطورة للغاية وتستطيع من ثم أن تضمن للنظام الإيراني وفاء الأطراف الخليجية بالتعهدات التي يريدها كالابتعاد عن التورط في الشأن الداخلي خاصة في ظروف الأزمة الاقتصادية والسياسية الخانقة حاليا، وكذلك الابتعاد عن دعم هجمات إسرائيلية أو إسرائيلية-أمريكية محتملة على المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، وقبول بقاء الحوثيين في المشهد السياسي ضمن قوى أخرى ما أن تتحول الهدنة الراهنة في اليمن إلى اتفاق سلام دائم.
للصين في علاقتها مع إيران، ثالثا، مظهر القوة الكبرى المنافسة (وليس المناوئة) للولايات المتحدة الأمريكية التي يربط النظام الإيراني بها علاقة عداء صريحة. في مواجهة «الشيطان الأكبر»، حتما سيرحب النظام الإيراني بتنامي دور الصين الاستراتيجي والدبلوماسي والسياسي في الشرق الأوسط بجانب دورها الاقتصادي والتجاري. في مواجهة الولايات المتحدة، حتما سيرحب الإيرانيون بترتيبات أمنية تقودها الصين، حتى ولو كانت جزئية ومكملة للترتيبات التي ترعاها واشنطن وليست بديلا لها. فكل تجاوز للهيمنة الأمريكية المنفردة في الشرق الأوسط والتي تبلورت منذ نهاية الحرب الباردة إن بدور متنام للصين أو بحضور عسكري مستمر لروسيا في بعض الساحات العربية أو بتناغم متصاعد بين الدورين الصيني والروسي، يعني في قراءة النظام الإيراني خطرا أقل على استقرارهم وتهديدا أضعف لبرامجهم النووية والعسكرية وعزلة دولية تتراجع وطأتها وبيئة دولية وإقليمية أشد تحفظا على اعتداء إسرائيلي أو إسرائيلي-أمريكي محتمل.
هذه هي أوراق الصين تجاه إيران، وهذا هو وزنها في الخليج الذي تستورد منه ثلثي احتياجاتها من النفط وتعد على ضفتيه الشريك الاقتصادي والتجاري الأول، وهذه هي خلفيات الوساطة بين السعودية وإيران وبها أعلنت الصين عن دورها المتنامي في منطقة الشرق الأوسط واهتمامها بالبحث عن حلول سلمية للصراعات وبالتوافق حول ترتيبات أمنية دائمة. فهل تكفي هذه الأوراق لدفع إيران لتغيير سياساتها وأفعالها في المنطقة؟ وهل يمكن التفاؤل وتوقع حسن نوايا النظام الإيراني على الرغم من الماضي الطويل لتهديداته لأمن الخليج وللأمن العربي وعلى الرغم من سابق تنصله من تعهداته الإقليمية؟ وهل سيرى النظام الإيراني في الوساطة والحوار فرصة للتراجع عن النهج المتشدد والعدائي في الخليج والشرق الأوسط ومن ثم الحد من عزلته الإقليمية في لحظة أزمة اقتصادية وسياسية خانقة تحيط به؟
فقط الأيام القادمة والساحات العربية المختلفة هي التي ستجيب على كل هذه التساؤلات، بدءا من اليمن وفرص وقف دائم للحرب وإحلال للسلام وإنهاء للمأساة الإنسانية في هذا البلد العربي العزيز مروراً بأوضاع العراق ولبنان وسوريا ووصولا إلى وقف الأعمال العدائية في الخليج من قبل الميليشيات التابعة لإيران.
أخيرا، وعلى الرغم من أهمية دور الصين المتنامي في الشرق الأوسط وقوة أوراقها تجاه إيران للحد من سياساتها وأفعالها المهددة للأمن الإقليمي خاصة في الخليج، يظل الاختيار الاستراتيجي الأكثر أمانا على المدى الطويل لبلدان الخليج هو، من جهة، المزج بين وساطة بكين والتفاوض مع طهران وبين تقوية أواصر الأمن العربي المشترك مع القاهرة وعمان وتدريجيا مع بغداد (ما أن تستقر سياسيا) وصولا إلى صفر «صراع وتهديد» في منطقتنا. ومن جهة أخرى، يظل الأكثر أمانا على المدى القصير والمتوسط لبلدان الخليج هو الإبقاء على شيء من الضمانات الأمنية الأمريكية (الشق الأكبر من سلاح الخليج ومعدات الجيوش يأتي من الولايات المتحدة) دون إلغاء لاستقلالية القرار الخليجي.
كاتب من مصر