في السجن… حيث علّمني كنفاني أنّ الحرية تبدأ من السؤال

في السجن… حيث علّمني كنفاني أنّ الحرية تبدأ من السؤال
ثائر أبو عياش
في قلب الزنزانة، بين جدران الخرسانة الباردة وصمت الحديد، كانت رواية «عائد إلى حيفا» أول لقاء لي مع غسان كنفاني. لم تكن مجرد رواية نقرأها لنقضي الوقت خلف القضبان، بل كانت حدثاً وجودياً، اختراقاً للذاكرة، وشرارة وعي تفجرت في أكثر اللحظات عزلة، لتوقظني من غيبوبتي السياسية.
في سجون الاحتلال عام 2010، لم يكن للقراءة طابع الترف الثقافي، بل كانت مقاومة من نوع آخر. أن تقرأ غسان في الأسر، يعني أن تواجه ذاتك من دون أقنعة، وتُعيد تشكيل موقعك في معادلة الوطن والمنفى والمواجهة.
لم يكن غسان بالنسبة إليّ كاتباً فقط، بل تجسيداً لفكرة لا تُهزم. منذ اللحظة الأولى شعرت أنني لا أقرأ رواية، بل أستعيد موقفاً. شخصياته لم تكن رمزية فقط، بل مرايا صافية تعكس ما نحن عليه وما صرنا إليه. سعيد، وامرأته، لم يكونا مجرد بطلين أدبيين، بل شهوداً على الجرح الفلسطيني المفتوح، جرح لا يندمل لأنه لم يُعترف به بعد. لكن الأهم أن غسان لم يقدّم سرداً عاطفياً مفرغاً، بل وضع إصبعه في جرح الهوية، وسأل السؤال الأصعب: من نحن؟ وماذا يعني أن نكون فلسطينيين في عالم اختطف ماضينا ويحاصر مستقبلنا؟
داخل السجن، كانت كلمات غسان كأنها مضادة للرصاص، تعبر الأسلاك وتشظي الروايات الإسرائيلية التي حاولت اختراق وعي الأسرى. لقد حمانا من «كي الوعي» بكل ما تعنيه الكلمة. حمانا من التصالح مع صورة الضحية المنكسرة، ومن تقبّل السردية الصهيونية التي تصفنا بالطارئين أو الغرباء على أرضنا. غسان، بكلماته، أكد أننا لسنا هامشاً، ولسنا استثناءً، بل أصل في هذه الأرض، وفعل في هذا التاريخ.
ما منح غسان فرادته ليس فقط ما كتبه، بل كيف كتبه.
لم يكن أديباً يكتب من برج عاجي، بل من خندق المواجهة، من قلب التجربة، ومن وعيٍ مشتبك مع سؤال التحرر. لقد فتح لنا الطريق نحو الثقافة بوصفها ساحة معركة، لا نوافذ للزينة. جعلنا نفهم أن امتلاك الرواية هو امتلاك للسلاح، وأن الوعي الثقافي هو الحصن الأول في مقاومة الأسر والعسكرة والعزلة. لقد حرّضنا على القراءة لا كفعل فردي، بل كموقف جماعي في وجه محاولات العدو لطمس ذاكرتنا.
هنا كانت عبقرية كنفاني: أن يجعل من الوعي بواقعنا المؤلم مقدمة لتحرره، لا سبباً للخضوع له
غسان لم يكتب فقط عن اللاجئين، بل أعاد تعريف اللجوء بوصفه قطيعة قسرية مع الزمن والمكان والهوية. لم يكتف بوصف الألم، بل كان يفضح أسبابه، ويدين منظومته. في أعماله، لم يكن الفلسطيني مجرد ضحية، بل حاملاً لمشروع، فاعلاً في التاريخ، حتى في هزيمته. وهنا كانت عبقرية كنفاني: أن يجعل من الوعي بواقعنا المؤلم مقدمة لتحرره، لا سبباً للخضوع له.
تجربتي مع غسان داخل الأسر لم تكن مجرد اكتشاف لأديب، بل لحظة تكوّن فكري. فهمت حينها أن المقاومة ليست بندقية فقط، بل وضوح أخلاقي وفكري. وأن المعركة لا تُحسم في ساحات القتال وحدها، بل في ساحة الوعي أولاً. غسان لم يكن يقدّم أجوبة جاهزة، بل كان يزرع فينا أسئلة نواجهها بشجاعة. لقد قدّم مفهوماً فلسفياً للأرض والعودة، ليس كجغرافيا تُستعاد، بل كوعي لا يُنتزع.
ما لم يُقَل كثيراً عن غسان هو حضوره الميتافيزيقي، حضوره كفكرة لا كجسد. حين اغتاله الاحتلال، لم ينتهِ، بل بدأ من جديد، فينا، في جيل لم يعاصره لكنه تأثّر به، وتشرّب من كلماته روحاً نقدية تحرّر الفلسطيني من الدور المرسوم له كضحية، وتُعيد إنتاجه كفاعل تاريخي. غسان لم يكن يكتب عن فلسطين بل يكتب فلسطين، لا كما كانت فقط، بل كما يجب أن تكون.
وقد تكون خطورته الأكبر أنه لم يهادننا نحن الفلسطينيين. لم يقل لنا ما نحب سماعه، بل ما نحتاج إلى مواجهته. لم يدغدغ مشاعرنا بالحنين وحده، بل واجهنا بمسؤوليتنا عن النكبة، عن المنفى، وعن سؤال «العودة» باعتباره فعلاً سياسياً وثقافياً يتطلب صرامة أخلاقية لا شعاراً عاطفياً.
حين خرجت من السجن، كانت كلمات غسان تمشي معي. لم أغادر الزنزانة خالياً، بل محمّلاً بسلاح من نوع آخر: وعي لا يمكن مصادرته. عرفت أن الاحتلال قد يُحاصر أجسادنا، لكنه عاجز عن ترويض من قرأ غسان بصدق. علّمني أن الانتماء ليس شعاراً، بل موقف. وأن الحرية لا تُنتظر بل تُبنى. وأن العودة ليست فقط مفتاحاً على حائط، بل مشروع وجود لا يقبل التفاوض أو النسيان.
غسان كنفاني لم يمت، لأن ما كتبه لم يكن ورقاً بل روح. ونحن الذين لمسنا أثره داخل الزنازين، نعرف أن بعض الكلمات أكثر فتكاً من الرصاص، وأبقى من كل القتلة. لقد عاد إلى حيفا، وإلى غزة، وإلى نابلس، وعاد إلينا. لم يحمل بيده مفتاحاً، بل مرآة، لنرى أنفسنا من جديد، كما نحن، وكما يجب أن نكون.
* كاتب فلسطيني