إسبرطة العبرية ومصيرها الفارسي

إسبرطة العبرية ومصيرها الفارسي
مالك التريكي
كاتب من تونس
أيا يكُنْ رأي القارئ العربي في مواقف المعلق الأمريكي الشهير توماس فريدمان وتوجهاته وتحيزاته، خصوصا ما تعلق منها بدولة إسرائيل التي شغفته حبا، فإن الذي لا مراء فيه أنه من أبرع كتّاب العمود في الصحافة المعاصرة وأن لمقالاته رونقا جذابا ولأسلوبه نكهة فوّاحة. ولعل إحدى أَمْيَز خصائص هذا الأسلوب أن له موهبة في فن سبك العبارات الرشيقة الأخاذة.
ومن أحدث الأمثلة أن فريدمان قال، في مهرجان آسبن للأفكار، إن ما يرنو إليه المجتمع الإيراني، أو طبقته الوسطى تحديدا، هو أن يحيا حياة تشبه حياة المجتمع الإسرائيلي؛ أما ما يخافه الإسرائيليون فهو العكس تماما: أي أن يكون مستقبلهم شبيها بالحاضر الإيراني! وما يقصده فريدمان هو أن عموم الإيرانيين يريدون التحرر من نظام الملالي ليعيشوا في نظام علماني، أما ما يخافه عموم الإسرائيليين فهو أن تعاظُم نفوذ المتدينين الأرثوذكس سيؤدي إلى تحويل إسرائيل إلى دولة تحكمها ظلامية التعصب، بحيث يكون المستقبل الإسرائيلي مجرد نسخة يهودية من الحاضر الإيراني، أي ضربا من ولاية الفقيه التلمودية! وللتدقيق، فإن الحديث عن رغبة الإيرانيين في إقامة نظام علماني إنما هو زعم يعوزه الدليل. بل الأصوب عندنا القول إنهم يطمحون، شأنهم في ذلك شأن معظم البشر، إلى أن يحيوا حياة عادية في دولة مدنية لا يحكمها المتزمتون الدينيون ولا المتزمتون العلمانيون.
ما يخافه عموم الإسرائيليين هو أن تعاظُم نفوذ المتدينين الأرثوذكس سيؤدي إلى تحويل إسرائيل إلى دولة تحكمها ظلامية التعصب
إلا أن الحق أن فريدمان ليس أول قائل بهذا الرأي. فقد سبق للكاتب ميشال إلتشانينوف أن لاحظ أن ثمة تشابها بين المجتمعين الإيراني والإسرائيلي، وروى أنه لما زار طهران دعاه مجموعة من الفنانين الإيرانيين إلى العشاء وكانت أحاديثهم تتراوح بين انتقاد حكم الملالي وإطراء أسلوب المعيشة الإسرائيلي. حيث قال أحدهم «إن الناس في تل أبيب يشبهوننا: فهم يرغبون في مجرد أن يعيشوا كما يحلو لهم. ولكن فوق رقابهم رجال دين يمضون وقتهم في التحليل والتحريم، تماما مثلما هو الشأن عندنا مع الملالي». وتعليق الكاتب الفرنسي على ذلك أن الإيرانيين يحسدون، أو يغبطون، جيرانهم الإسرائيليين على حريتهم، علما أن الشعبين يتشابهان من حيث ارتفاع المستوى التعليمي وحتى من حيث الذوق الفني، أو التلفزي على الأقل: حيث إن ما لا يقل عن 25 مليون إيراني شاهدوا أجزاء من مسلسل «فوضى» الإسرائيلي المليء بمغامرات التجسس وملاحم البطولة في مجال تعقب «الإرهابيين».
وإذا كان بين الشعبين الإيراني والإسرائيلي شعور بالقرب أو الشبه، دون الجرأة على إعلان ذلك، فإن المشكلة في رأي إيلتشانينوف أن التشابه أخذ يتزايد أيضا بين قادة الدولتين. فلا شيء في إيران إلا وهو تحت سلطان اللاهوت السياسي، وثمة في دوائر الحكم الإيراني من يعتقد أن التعجيل بعودة المهدي المنتظر الذي سيملأ الدنيا عدلا مثلما امتلأت جورا يقتضي القضاء على دولة إسرائيل. أما في إسرائيل فإن وزير المالية بيزاليل سموتريتش، الذي أعلن عام 2019 أنه «يسعى في سبيل يهوه» وليس في سبيل نتنياهو، فهو أحد الساسة اليهود المتكاثرين الذين يسعون إلى إقامة دولة اللاهوت السياسي في إسرائيل. أما وزير الأمن إيتمار بن غفير فهو من الساسة الذين يستشهدون بالرواية التوراتية عن حرب نهائية يشنها على إسرائيل في آخر الزمان يأجوج، أمير قوم مأجوج، ضمن تحالف عسكري يشمل الفُرس والأفارقة. أتى في سفر حزقيال: «وقل هكذا قال السيد الرب: هأنذا عليك يا جوج رئيس روش (روسيا) ماشك (موسكو) وتوبال (سيبيريا) (..) فارس، وكوش (أثيوبيا) وفوط (ليبيا) معهم، كلهم بمِجَنّ وخوذة (..) لذلك تنبأ يا ابن آدم وقل لجوج: هكذا قال السيد الرب: في ذلك اليوم عند سُكنَى شعبي إسرائيل آمنين، أفلا تعلم؟». وبالطبع يتدخل يهوه لينصر دولة إسرائيل ويُهلك يأجوج «وأعاقبه بالوباء وبالدم، وأمطر عليه وعلى جيشه وعلى الشعوب الكثيرة الذين معه مطرا جارفا وحجارة برَد عظيمة ونارا وكبريتا».
يعلق فريدمان على هذا الصعود الصاروخي للاهوت السياسي في إسرائيل بالاستشهاد بالمؤرخ الإسرائيلي شابتاي تيفيث الذي قال عام 1970، في كتابه «النعمة الملعونة: قصة احتلال إسرائيل للضفة الغربية»، إن النتيجة غير المقصودة لحرب 1967 أنها أطلقت القوى الخلاصية المشيحانية من قمقمها. أما إلتشانينوف فإنه يتساءل: بما أن إيران أخذت تتهوّد أو «تتأسْرَلُ» (تتطبع بطبائع شعب إسرائيل) فهل تكون إسرائيل هي أيضا آخذة في التطبع بطبائع دولة فارس؟
كاتب تونسي