مقالات
في الذكرى السابعة والخمسين لثورة 17 تموز المجيدة -ثَورَة تَمُّوز تَجذِيرٌ نَوعِيٌّ لِتَجرِبةٍ حَداثَويَّةٍ نَهْضَويَّة بقلم أ.د. محمد مراد – لبنان
بقلم أ.د. محمد مراد - لبنان

في الذكرى السابعة والخمسين لثورة 17 تموز المجيدة -ثَورَة تَمُّوز تَجذِيرٌ نَوعِيٌّ لِتَجرِبةٍ حَداثَويَّةٍ نَهْضَويَّة
أ.د. محمد مراد – طليعة لبنان
بعد مضي نصف قرن وسبع سنوات على الثورة العراقية التي قادها حزب البعث العربي الاشتراكي – ثورة 17 تموز عام 1968، لا يسع المراقب التاريخي والباحث المحقّق إلاّ أن يتوقّف مليا أمام تجربة هذه الثورة التي باتت إنجازاتها الثورية مخزونة في ذاكرة التاريخ العربي المعاصر، لما هي إنجازات تركت بصماتها الدامغة في تحديث وتطوير العراق مجتمعا ودولة من جهة، وفي تأكيد تفاعلاتها العميقة في الالتزام والتكامل الاستراتيجي بين البنائين الوطني والقومي من جهة أخرى.
لم تمض سنوات قليلة على الثورة، حتى كانت إنجازاتها الثورية قد أضحت حقيقة واقعة في كل مجالات الحياة العراقية والعربية لجهة التأسيس لبناء دولة قائمة على مرتكزات عميقة حاملة للتطوير والنهوض الوطني وبآفاق قومية منسجمة مع منطلقات وتوجّهات قيادة الثورة المستلهمة لمبادىء البعث الثورية التحررية والقومية.
أبرز الإنجازات التي سجّلتها الثورة، وهي عديدة لا تحصى، كانت على مستويات ثلاثة أساسية:
الأول، البناء الاقتصادي ومركزيته في البناء العام للدولة والمجتمع
الثاني، اعتماد العلم والتطوير العلمي وامتلاك التكنولوجيا بخصوصية عراقية من غير استهلاك النماذج الأجنبية الجاهزة.
الثالث، تمكين العراق وتحويله الى دولة فاعلة في المجال القومي الوحدوي.
الإستقلال الإقتصادي كشرط ملازم للإستقلال السياسي
أولاً: في البناء الإقتصادي
كانت الخطوة التأسيسية الأولى التي اعتمدتها الثورة قد تمثّلت بتحقيق الاستقلال الاقتصادي كشرط ملازم للاستقلال السياسي والسيادة الوطنية. أمّا الترجمة العملية لهذه الخطوة فقد دلّ عليها قرار قيادة الثورة التاريخي بتأميم النفط في الأول من حزيران 197 وعلى قاعدة شعار” نفط العرب للعرب ” .
أفضى قرار التأميم الى ارتفاع قياسي في حجم العائدات النفطية العراقية. فبعد أن كانت هذه العائدات 521 مليون دولار لعام 1970، قفزت الى 1834 مليونا عام 1973 أي بعد سنة واحدة على قرار التأميم، ثمّ لم تلبث أن سجّلت 26136 مليونا عام 1980، أي أنّها تكون قد تضاعفت اضعاف عديدة خلال عشر سنوات (1970- 1980 ).
وعملا بسياسة مركزية لقيادة الثورة قضت بأن تكون الثروة الوطنية العامّة ملكا للشعب العراقي، فقد تمّ توظيف الزيادات الهائلة في موارد الدولة الناجمة عن التأميم في إطلاق جملة من الخطط الاقتصادية والتنموية الطموحة، وخاصّة في مجال التصنيع من خلال بناء القاعدة التصنيعية التي يستند عليها الاقتصاد العراقي، حيث تحوّل العراق الى دولة متقدمة على العديد من اقطار الوطن العربي في هذا المجال.
أبرز خطوات حكومة الثورة في مجال التصنيع كانت:
1 – توسيع قاعدة القطاع الصناعي العام ( قطاع الدولة ) بشكل غير مسبوق ، ففي خلال فترة لا تزيد عن عشر سنوات (1970 – 1980) بلغ مجموع ما خصّصته الحكومة العراقية للاستثمار في القطاع الصناعي أي القطاع العام نحو 700 مليون دينار عراقي أي ما يوازي قرابة 25 مليار دولار أمريكي بالأسعار الجارية آنذاك.
2 – تشجيع القطاع الصناعي الخاص على قاعدة التوازن مع القطاع العام ( القرار رقم 22 لعام 1972، والقرار رقم 899 لعام 1980).
3 – منح رؤوس الأموال العربية حقّ الاستثمار الصناعي في العراق بنفس الامتيازات الممنوحة للمواطنين العراقيين، أما الاستثمار الأجنبي فقد ظلّ محدودا الى أن صدر قرار في 1/11/ 1990 قضى بمنعه من العراق نهائيا.
4 – التوسع في انشاء مراكز البحث العلمي والتطوير الصناعي، وإعطاء أهمية قصوى لإعداد الكوادر العلمية الوطنية، الأمر الذي سمح للعراق، وفي فترة لا تتجاوز العقد من الزمن ( 1970 – 1980) بإعداد عدد ملفت من العلماء، ليس فقط في مجال اكتساب العلوم التطبيقية، وفي القدرة على التحوّل نحو التكنولوجيا وإنتاج المعرفة وحسب، وإنّما، وهذا هو الأهمّ انتاج تجربة علمية إنتاجية بخبرات عراقية صرفة، ودونما أي حاجة لاستيراد الخبرات الأجنبية واستهلاكها.
5 – التوسّع الهائل في حجم المؤسّسات الصناعية في مختلف المحافظات العراقية، حيث وصل عدد هذه المؤسّسات المسجّلة في وزارة الصناعة لغاية نهاية العام 1990 الى 41194 مؤسّسة بينها 575 مصنعا كبيرا، الأمر الذي يشير الى أنّ دينامية التصنيع العراقي فاقت مستويات النشاط التصنيعي في اليابان وألمانيا الغربية قبل توحيد شطري المانيا عام 1989.
على موازاة الاهتمام بالقطاع الصناعي عملت حكومات الثورة المتعاقبة على تطوير القطاع الزراعي كترجمة لسياساتها الرامية الى تنويع مصادر الإنتاج،
ووصول العراق الى مرحلة يتجاوز معها ظاهرة الإنتاج الأحادي السائد في دول النفط العربية. وقد لاقت هذه السياسة نجاحاً باهراً دلّت عليه الأحجام الكمية
للإنتاج الزراعي، حيث تحول العراق الى بلد مصدّر لأنواع عديدة من المنتجات الزراعية الفائضة عن اكتفائه بالأمن الغذائي الذاتي.
المعجزة الإقتصادية
إنّ الطفرة الإقتصادية التي حقّقتها ثورة تموز الرائدة في فترة لا تزيد عن عقد واحد هو عقد السبعينات من القرن الماضي تصل الى حدّ وصفها بالمعجزة الاقتصادية. فهذه المعجزة جاءت لتؤكّد على القدرة الخارقة للعراق كدولة ومجتمع على استيعاب التحدّيات غير العادية التي تواجه الأمّة العربية في تاريخها المعاصر. فالدولة العراقية لم تكتف فقط بالتخطيط والاشراف على عمليات الإنتاج وحسب، وإنّما أيضا عملت بمنهجية ” الكنزية الاقتصادية” لجهة إحداث التوازن السوقي بين عمليتي العرض والطلب من جهة، وفي إيجاد معادلة إنتاجية توازن بين القطاعين العام والخاص من جهة أخرى. هذا التوازن الذي عكسته نسبة المساهمة لكل من القطاعين وهي 50 % في العام 1982.
ثانيا: اعتماد العلم والتطوير العلمي كأساس للنهوض الشامل
أدركت قيادة ثورة 17 تموز، منذ البداية، أنّ العلم والتطور العلمي يمثّلان حجر الزاوية في عمليات البناء الوطني ونهوض الدولة على غير مستوى اقتصادي واجتماعي وسياسي وحضاري. ففي النصف الاول من السبعينات بدات الحملة الوطنية الشاملة لمحو الامية. وفي العام 1979 صدر قانون إلزامية التعليم الأساسي، وقد أعطى نتائجه المذهلة خلال سنوات قليلة، بحيث كادت الصفرية تسود نسبة الأميّة في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، في وقت ظلت فيه دول عربية عديدة تشهد نسبا مرتفعة من الأميّة تراوحت بين 25 % في الأدنى في دولة الامارات العربية المتحدة، وحوالي 58 % في اليمن على سبيل المثال.
وفي خطوة أخرى مميّزة عكست مدى الاهتمام والرعاية لقيادة الثورة للعلم الإبداعي أي للعناصر المتفوّقة من الطلاّب والباحثين، تم تشكيل الهيئة العليا لتكريم العلماء، كما وتم منح “نوط الاستحقاق العالي” للباحثين المتميزين ، اضافة الى منح ” وسام الجامعة” للمبدعين من التدريسيين الناشطين في البحث العلمي ، كما وتم تخصيص “جائزة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي” الى الاستاذ الاول في البحث والتطوير على مستوى القطر، وجائزة ” العميد المتميز” على مستوى القطر لمن يقود طفرة في مجال البحوث، اضافة الى ” جائزة صدّام للبحث العلمي”، وهي جائزة تمنح كل مواطن عراقي أو عربي مكافأة مالية تشجيعية قدرها 30 ألف دينار عراقي أي ما يوازي قرابة 100 ألف دولار أميركي بالأسعار الجارية.
وممّا تجدر الإشارة اليه في هذا المجال، أنّ الأعداد الهائلة من الخريجين الجامعيين كانت مستوعَبة في سوق العمل، الأمر الذي جعل البطالة في العراق تكاد أن تكون صفرية قبل فرض الحصار الأميركي الظالم على شعب العراق لمدة ثلاث عشرة سنة بين 1990 – 2003.
ثالثا: البعد القومي لثورة تموز المجيدة
صحيح أنّ الثورة العراقية حقّقت إنجازات عميقة في بنية المجتمع العراقي، الاّ أنّ الطموحات الاستراتيجية لقيادة الثورة لم تكن محكومة بسقف الدولة العراقية كدولة قطرية، وإنّما كانت تسعى الى تأسيس النموذج الوطني العراقي كمدخل الى المجال القومي العربي العام. فالقيادة العراقية كانت تطمح لإقامة الدولة العربية الواحدة على قاعدة التحرّر والاستقلال القومي، وبناء مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية. وعملا بهذه المنطلقات كان عراق الثورة أكثر التزاما بالقضايا القومية العربية وفي طليعتها القضية الفلسطينية. فهو الدولة التي ظلّت حتى حصول الاحتلال الأميركي، تتميّز بمواقفها المبدئية الثابتة تجاه عروبة فلسطين، وضرورة توفير كل الإمكانات المتاحة لتحريرها من المحتل الصهيوني الاستيطاني.
كذلك، هناك مواقف لا تحصى، عكست التزام القيادة العراقية بقضايا الوحدة القومية، منها على سبيل المثال لا الحصر، الموقف الدّاعم لوحدة اليمن، وتقديم المساعدات الكثيرة لكل الاقطار العربية منها السودان والصومال وتونس والأردن ولبنان وغيرها.
ولا يغيب في هذا المجال اندفاع الجيش العراقي – جيش الثورة – الى جبهات القتال مع العدو الصهيوني في سوريا ومصر، والوثائق التاريخية لا تزال تسجّل للجيش العراقي في حرب تشرين الأول (1973) بسالته في الدفاع عن القنيطرة و حمايته لدمشق من السقوط واعداده خطة مع الجيش السوري لتحرير الجولان المحتل، لكن أوامر القيادة السورية صدرت بوقف اطلاق النار.
لقد كانت قيادة الثورة تسعى دائما من أجل خلق مؤسّسات عربية فوق قطرية تعزيزا لمسيرة التكامل العربي، وبما ينسجم مع أهدافها القومية في قيام المجتمع العربي الوحدوي وإقامة دولة الوحدة القومية العربية.
واذا كان هناك من دوافع عديدة للاحتلال الأمريكي للعراق، فإنّ الدافع الأكثر الحاحا هو ذلك المشروع القومي الوحدوي الذي التزمته ثورة 17 تموز كخيار استراتيجي لأهدافها وتوجّهاتها.
ثورة 17 تموز تجذير نوعي لتجربة حداثوية نهضوية
ولمّا كانت منطلقات الثورة العراقية – ثورة 17 تموز- تجذيراً نوعياً لتجربة حداثوية نهضوية امتلكت أفقا ًاستراتيجيا ًباتجاه التأسيس لتجربة موازية على المستوى القومي العام، فإنّ القوى الاستعمارية والصهيونية والرجعية العربية التابعة هبّت لمناهضة هذه التجربة الواعدة مانعة عليها استكمال مشروعها التاريخي، ليس فقط في مجال استنهاض الأمّة العربية وحسب، وإنما أيضا في مجال تعميم رسالتها الإنسانية التحررية الى العالم أجمع.
إنّ الهدف البعيد لقوى التآمر الخارجي الدولي والإقليمي والرجعي يكمن، قبل أي شيء آخر، في ضرب تجربة الثورة العراقية بقيادة حزب البعث العربي
الاشتراكي، قبل أن تتحوّل الى تجربة قومية شاملة. ذلك أنّ العراق استطاع خلال ثلث قرن ونيّف ( 1968 – 2003) أن يمتلك نموذجاً نهضوياً نوعياً ذي خصوصية عربية مميّزة قادرة على تأسيس مراكمات ناجحة ومستدامة، وتمثّل خروجا عربيا على التبعية والإلحاق برأسماليات المركز الغربي وزعيمته الولايات المتحدة الأمريكية.
الهجمة الأمريكية – الصهيونية على تجربة ثورة 17 تموز المجيدة إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على عمق الأزمة التي بلغتها رأسمالية الشركات الحاكمة للاقتصاد والسياسة في أميركا.
هذه الرأسمالية المتوحّشة ترى في تجربة الثورة في العراق معوّقاً رئيسياً أمام مشروعها الراهن في أمركة العالم، والاستحواذ على ثرواته الطبيعية والاقتصادية، وإلغاء هويّات شعوبه الثقافية والحضارية.