ثقافة وفنون

المحقق مورك… قدّيس القضايا الخاسرة

المحقق مورك… قدّيس القضايا الخاسرة

 دائماً ما سحرتنا أعمال الـ «نورديك نوار» (Nordic Noir)، بأجوائها الكئيبة وقصصها المعقدة التي تتغلغل في ظلام النفس البشرية.

سعيد محمد

دائماً ما سحرتنا أعمال الـ «نورديك نوار» (Nordic Noir)، بأجوائها الكئيبة وقصصها المعقدة التي تتغلغل في ظلام النفس البشرية.

هذا النوع الأدبي الذي ظهر في التسعينيات، وظّف مناظر الطبيعة الاسكندنافية القاسية كخلفية لقصص الجريمة المروعة والعدالة والتحقيقات.
مع النجاح الهائل الذي حققته هذه الأعمال، تحول كثير منها إلى أفلام ومسلسلات لقيت رواجاً، فكان محتّماً أن تسعى المنصات الأميركيّة إلى تقديم نسخها الخاصة منها بالإنكليزية سعياً إلى تعظيم العائد التجاري عبر تكرار ذلك النجاح مع جمهور أوسع، مع ما يتطلبه ذلك من ترجمة للمزاج الاسكندنافي إلى فضاءات أنغلوساكسونية لجسر فرق الثقافات.

من أحدث هذه المحاولات Dept Q أو «القسم كيو» من نتفليكس، آخر اقتباس لسلسلة روايات دنماركية شهيرة للكاتب يوسي أدلر-أولسن، سبق تحويلها إلى سلسلة أفلام ناجحة في موطنها الدنمارك.

فريق المنبوذين في مواجهة الجرائم الباردة

تتمحور أحداث «القسم كيو» في موسمه الأول حول المحقق الصعب المزاج كارل مورك (يؤدي دوره ماثيو جود)، الذي يعود إلى عمله بعد إصابته بطلق ناري في حادث أودى بحياة ضابط شاب وشلّ شريكه المقرب، جيمس هاردي (يؤدي دوره جيمي سيفز).

هذه التجربة المؤلمة تترك مورك، ليس فقط بندوب جسدية، لكن أيضاً مع اضطراب ما بعد الصدمة وشعور ثقيل بالذنب، ما يجعله أكثر انطواءً وفظاظة عما كان عليه في الأصل.

يُعيّن مورك، كنوع من العقاب أو الإبعاد عن الأنظار، على رأس القسم كيو، وهي وحدة جديدة مخصّصة للنظر في قضايا الجرائم الباردة، خُصص لها قبو قذر ومظلم في مقر قيادة شرطة اسكتلندا. ويبدو أن هذه الوحدة قد خلقت أصلاً ليتم إرسال العملاء الفاشلين أو المارقين إليها للعمل على قضايا خارج دائرة الاهتمام، ما يمهّد لخلق فريق من الشخصيات الهامشية التي لا يجد النظام مكاناً لها في الأقسام الرئيسية.

ينضم إلى مورك في هذا القسم المعزول أكرم سليم (أليكسي مانفيلوف)، لاجئ سوري ذو ماضٍ غامض وخبرة شرطية سابقة في بلاده، ولكنه غير مؤهل للعمل كضابط في إدنبرة.

يمثل أكرم، المنطقي والهادئ، موازناً لطبيعة مورك المتقلبة. كما تنضم إليهما المحققة الشابة روز (ليا بيرن)، التي أُبعدت عن المهمات الميدانية بعد تعرضها لانهيار عصبي.

هذا الثلاثي، الذي يشكل طاقماً من المنبوذين، يتولى التحقيق في قضية اختفاء محامية حقوق الإنسان البارزة ميريت لينغارد (كلوي بيري) قبل أربع سنوات، والتي يُفترض أنها سقطت من عبّارة أو انتحرت من دون أن يعثر على جثتها قط.

معاناة مورك، غموض أكرم، وحيوية روز

نقطة القوة الأبرز في المسلسل هي الأداء التمثيلي الاستثنائي لطاقم العمل، على رأسه جود في دور المحقق مورك الذي قدّم أداءً متقناً ومقنعاً لشخصية معقدة ومتعددة الأوجه.

مورك ليس بطلاً تقليدياً؛ فهو فظ، ساخر، وغالباً ما يكون أنانياً وغير حساس لمشاعر الآخرين، ولكنه ذكي، وموهوب، ولديه حدس استثنائي في كشف غموض الجرائم. ينجح جود في إضفاء مسحة من الإنسانية والألم على الشخصية، ما يجعلنا نتعاطف معه رغم كل عيوبه.

إن متابعة صراعه الداخلي، وكفاحه مع شعوره بالذنب، وكيف يتغلغل هذا الشعور في روحه تدريجاً على مدار الحلقات التسع، أمر مشوّق ربما أكثر من حبكة الجريمة نفسها.

كما يبرز مانفيلوف في دور أكرم، الشخصية الهادئة والمتزنة والذكية التي تشكل توازناً مثالياً لمورك المتهور.

ويضيف ماضيه الغامض طبقة أخرى من التشويق للمسلسل، وإن كنا نرجو أن يظل هذا الماضي في الظلال ولا يتم استكشافه بشكل أعمق في المواسم القادمة عبر الترويج لكليشيهات مريضة عن سوريا والشرق. أيضاً، تُقدم ليا بيرن أداءً حيوياً ومحبباً في دور المحققة روز، الشابة الطموحة التي تضفي لمسة من الفكاهة والإنسانية على الفريق، وتُظهر مع تقدّم الحلقات تطوراً ملحوظاً في شخصيتها.

هذا الثلاثي المركزي من الشخصيات المنبوذة التي انتهت للتخصص في القضايا الخاسرة يشكّل معاً كيمياء متألقة لها مفعول السحر على الشاشة.

إدنبرة خلفية قاتمة تليق بـ «نورديك نوار»

لا بدّ من الإشارة إلى أن نقل الأحداث من كوبنهاغن إلى إدنبرة كان قراراً موفقاً جداً. فهذه المدينة الاسكتلندية بجمالها القوطي وشوارعها الحجرية وسمائها الملبدة بالغيوم غالباً، تشكل خلفية بصرية مذهلة ومناسبة لأجواء أدب الـ «نورديك نوار» المظلمة والكئيبة.

لقد نجح المخرج سكوت فرانك (أخرج ست حلقات من أصل التسع التي تشكل الموسم الأول) في استغلال جمال المدينة ببراعة، والانتقال بسلاسة من اللقطات السياحية التي تُظهر معالم المدينة إلى تصويرها كمدينة حقيقية ونابضة بالحياة، من دون إهمال جانبها القاسي والأقل لمعاناً.

تكمن نقطة القوة الأبرز
في الأداء التمثيلي
الاستثنائي لطاقم العمل

كما إنّ التصميم المكاني للقسم كيو نفسه، في ذلك القبو المتهالك والقذر تحت مقر قيادة الشرطة، يخلق خلفية مثالية من الأجواء الكئيبة المتطابقة مع حالة مورك النفسية وانعزال منبوذي قسمه. هذا الاهتمام بالتفاصيل في الديكورات وتصميم المواقع، يمنح المسلسل أسلوباً بصرياً قوياً يساعده على التميز عن غيره من مسلسلات الجريمة والمحققين.

ويتعزز ذلك عبر استخدام اللهجة الاسكتلندية الأصيلة المحببة التي تضيف إلى الترجمة من العمل الأدبي الاسكندنافي طبقة ولا أجمل.

تعمل القصة على مسارين متوازيين: مسار تحقيق فريق كيو في قضية ميريت لينغارد، ومسار ميريت نفسها التي تروي قصتها من منظورها الشخصيّ، وهي محتجزة في غرفة ضغط خاصة. هذا الأسلوب السردي يسمح للمشاهد برؤية القضية من منظور الضحية والمحققين معاً، ما ينقل السرد إلى مستوى أعلى ويكسبه توتراً اضافيّاً.

تسع حلقات لقضية واحدة… هل كان التمديد ضرورياً؟

رغم كل نقاط القوة هذه، يواجه المسلسل مشكلة جوهرية يمكن أن تعيق نجاحه على المدى الطويل: الإيقاع البطيء والتمديد المبالغ فيه في السرد، ولا سيما في الجزء الأوسط منه. يمتد الموسم الأول على تسع حلقات، وكل حلقة تبلغ ساعة تقريباً، لتغطية قضية واحدة فقط، وهذا بالطبع قرار تجاري محض.

بالمقارنة، فإن محتوى الرواية الأصلية تحوّل سابقاً إلى فيلم من ساعتين فقط. بينما تبدأ الأحداث بشكل جيد وتتصاعد في النهاية لتصل إلى ذروة قوية ومؤثرة، تبدو الحلقات الوسطى بينهما بطيئة ومملة مع الكثير من التحولات الجانبية والمسارات الفرعية التي لا تضيف كثيراً لا إلى الحبكة الرئيسية ولا إلى تطور الشخصيات الرئيسية، ما يصعّب الحفاظ على اهتمام المشاهد بشكل مستمر.

ولربما كان للعمل أن يصبح أكثر إحكاماً وتأثيراً وأقل إرهاقاً للمشاهد لو توقفت عدد حلقاته عند خمس أو ست.

إضافة إلى ذلك، فإن التحقيق في حادث إطلاق النار الذي أصاب مورك وشريكه، وهو جزء مهم من القصة الخلفية للشخصية الرئيسية، يتم التعامل معه بشكل سطحي، ويتم إجراؤه بواسطة محققين يفتقرون إلى أي شخصية مثيرة للاهتمام في ما بينهم، ما يجعله خطاً فرعياً ضعيفاً لا يمكن الإفادة منه.

بذرة واعدة لسلسلة جديدة

«القسم كيو» مسلسل جريمة آسر من الناحية العاطفية ويقدم أداءً تمثيلياً استثنائياً، وينجح في خلق عالم ثري وشخصيات متنوعة.

مع وجود عشر روايات في السلسلة الأصلية، هناك الكثير من القضايا الخاسرة التي يمكن استكشافها، ما يضمن استمرارية القصة لسنوات قادمة إذا تمكن المسلسل من الحصول على ضوء أخضر لمواسم إضافية. وعندها قد يصبح إضافة قوية ومميزة إلى مكتبة أعمال الـ «نورديك نوار» الناطقة بالإنكليزية، وينافس بقوة الأعمال الأصلية الاسكندنافية التي ألهمته.

* Dept Q على نتفليكس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب