غزة عبر التاريخ: بين الغزوات وضريبة الدم ونهضات لا تنكسر

غزة عبر التاريخ: بين الغزوات وضريبة الدم ونهضات لا تنكسر
اعداد وتقرير وتقديم صحيفة صوت العروبه
(ضمن سلسلة التحليلات السياسية)
غزة، المدينة التي سميت بـ”بوابة آسيا إلى إفريقيا” و”مفتاح المشرق”، لم تكن يومًا مجرد مدينة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، بل كانت عبر التاريخ عقدة إستراتيجية جعلت منها مطمعًا للغزاة وساحة لصراع الإمبراطوريات، وفي ذات الوقت قلعة للصمود ودفع ضريبة الدم دفاعًا عن الإسلام والأمة العربية.
غزة في العصور القديمة: مدينة المقاومة الأولى
منذ الألف الثالث قبل الميلاد، برزت غزة كمركز تجاري هام للفراعنة الذين سيطروا عليها مرات عدة ضمن حملاتهم على بلاد الشام. وفي القرن الثامن قبل الميلاد، اجتاحت الجيوش الآشورية المدينة وأخضعتها بالقوة، لكنها سرعان ما استعادت حيويتها.
عام 332 ق.م، حاصر الإسكندر الأكبر غزة لشهور بعد أن أبدى أهلها مقاومة أسطورية قادها القائد البطولي “بتيصاريس”، الذي قتل خلال المعركة، لتدفع المدينة أولى ضرائب الدم في دفاعها عن أرضها وهويتها.
غزة في العهدين الروماني والبيزنطي: مركز ثقافي وتجاري
خلال حكم الرومان والبيزنطيين، تحولت غزة إلى مدينة مزدهرة تحتضن الأسواق والمعابد والمدارس، لكنها كانت دومًا في قلب التمردات الشعبية ضد الضرائب الباهظة وسياسات القمع، لتظل جذوة المقاومة متقدة في نفوس أبنائها.
غزة الإسلامية: قلعة متقدمة في مواجهة الصليبيين
مع دخول الإسلام في القرن السابع الميلادي، أصبحت غزة قاعدة عسكرية متقدمة. ففي معركة أجنادين (634م)، شكلت المدينة بوابة لانتصارات المسلمين بقيادة الصحابي خالد بن الوليد ضد الروم البيزنطيين.
وعندما احتلها الصليبيون عام 1100م ضمن حملاتهم على المشرق، تحولت غزة إلى ساحة معارك دموية استمرت عقودًا حتى حررها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام 1187م بعد معركة حطين. دفعت المدينة مجددًا ضريبة الدم الغالية دفاعًا عن الإسلام وكرامة الأمة العربية، لتسطر صفحات مشرفة في كتب التاريخ.
غزة في العصر العثماني والحديث: حصون مقاومة لا تذعن
في العصر العثماني، استمرت غزة مركزًا للتجارة والدفاع، لكنها شهدت موجات من الحصار والتجويع إبان حملات نابليون بونابرت على المشرق. وفي الحرب العالمية الأولى، كانت غزة محورًا لثلاث معارك شرسة بين القوات العثمانية والجيش البريطاني (1917)، انتهت بسقوط المدينة في أيدي البريطانيين بعد مقاومة عنيفة.
غزة والقضية الفلسطينية: ضريبة الدم المستمرة
منذ نكبة عام 1948، تحولت غزة إلى رمز لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين وصمودهم. احتلت إسرائيل المدينة عام 1967، لتدخل في دوامة من الانتفاضات والحروب:
انتفاضة الحجارة (1987)، التي أعادت فلسطين إلى واجهة العالم.
الانتفاضة الثانية (2000)، حيث دفعت غزة أثمانًا باهظة في الدفاع عن القضية.
سلسلة الحروب الإسرائيلية: 2008، 2012، 2014، 2021، وأخيرًا الحرب الأخيرة التي سجلت أبشع أنواع الدمار، إذ دُمرت أحياء بأكملها وسفكت الدماء بغزارة غير مسبوقة.
غزة بعد الحرب الأخيرة: صمود رغم الخذلان
اليوم، وبعد الحرب الأخيرة التي حوّلت غزة إلى كومة من الركام، يتجلى المشهد كما لو أن التاريخ يعيد نفسه بشكل أكثر قسوة. طائرات الاحتلال الإسرائيلية أفرغت حمولاتها من الصواريخ والقذائف على الأحياء السكنية، المستشفيات، المساجد، والكنائس، في محاولة لإخضاع المدينة وكسر إرادة سكانها. لكن غزة، التي اعتادت دفع ضريبة الدم دفاعًا عن الإسلام والعروبة، أثبتت من جديد أنها عصية على الانكسار.
في قلب هذا الدمار، يتمسك أهل غزة بالأرض والهوية الوطنية الفلسطينية، رافضين التهجير ومشاريع “التصفية الناعمة” التي تستهدف اقتلاعهم من جذورهم. إنهم يصمدون أمام الجوع والحصار وفقدان أبسط مقومات الحياة، مستلهمين من تاريخ مدينتهم الطويل أن البقاء هنا مقاومة، وأن إعادة الإعمار ليست مجرد عملية هندسية بل فعل مقاوم وحفاظ على الوجود.
وإزاء هذا الصمود البطولي، يبرز واقع مؤلم يتمثل في خذلان عربي رسمي لمأساة غزة، حيث اكتفى كثيرون ببيانات شجب خجولة ومبادرات إنسانية هزيلة، تاركين غزة تواجه وحدها آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة دوليًا. لكن رغم كل هذا، لم ينكسر الغزيون ولم يستسلموا، مؤكدين أن غزة ليست مجرد جغرافيا صغيرة، بل قضية كبرى تختزل معركة الأمة كلها مع مشروع الهيمنة والاستعمار.
إن غزة اليوم، بركامها ودمائها، لا تمثل فقط مأساة إنسانية، بل هي أيقونة للنهضة المستمرة، وشعلة أمل تلهم الأجيال القادمة أن الحق لا يموت، وأن الشعوب مهما أرهقها الحصار والجوع، قادرة على الصمود والنهوض، حتى وإن خذلها القريب والبعيد.