كتب

يوسف خليل – السمكة التي ابتلعها البحر بقلم حسين عبدالله جمعه

بقلم حسين عبدالله جمعه

يوسف خليل – السمكة التي ابتلعها البحر

بقلم حسين عبدالله جمعه

أراد أن يقول وداعًا قبل شهر من رحيله، لكننا لم نفهم… وأحيانًا نموت قبل أن نموت، ولا ندرك ذلك إلا متأخرين. في مملكة السويد، حيث كان النهار يطول حتى الحادية عشرة ليلًا، وجدت في صيد السمك عزاءً لي. علّمني رجل نازح من حلب أسرار هذه الهواية، فصارت هوسي الكبير. ومن بين ما تعلّمته: أن تمسك سمكة صغيرة جدًا وتستخدمها طُعمًا لسمكة أكبر. وذات يوم، علّقت سمكة صغيرة على صنارتي، وانتظرت ساعات طويلة دون جدوى. وحين هممت بالعودة، رميت السمكة في الماء لتسبح حرة، فإذا بسمكة كبيرة تنقض عليها وتبتلعها فورًا. جلست مذهولًا على ضفاف البحيرة، وفكرت في صديقي يوسف: “الذي كُتب له أن يموت، سيموت، ولو في بروج مشيّدة.” تلك السمكة الصغيرة بقيت حية أربع ساعات على صنارتي، وكأنها تعيش أجلًا إضافيًا قبل أن يبتلعها قدرها. وهكذا كان حال يوسف. أعود إلى بعلبك، حين كنت أعمل صيدلانيًا في عيادة الأونروا. دخل زميله الأستاذ معين يستنجد بنا، وصديقي يوسف يتلوّى ألمًا في السيارة. أسرعنا نحوه، فقال الطبيب إنها الزائدة الدودية، وأكد أن انفجارها وشيك، وعلينا نقله فورًا. كانت عملية بسيطة في العادة. طمأنته بأنني سأزوره بعد عملي، وذهبت لترتيب شؤوني. لكن حين وصلت إلى المستشفى، وجدت زوجته مضطربة، تخبرني أن وضعه يزداد سوءًا بعد العملية، وضغطه هبط إلى ٤ على ٢. دخلت إليه، كان العرق يغطيه كالمطر، سريره مبلل من رأسه حتى قدميه. نظر إليّ وقال جملة لم تفارقني أبدًا: “بدي أطلع من حالي.” منذ تلك اللحظة وأنا أحمل هذه الكلمات كحمل ثقيل على صدري لثلاثة عقود. اكتشفنا أن العملية الأولى أُجريت خطأً. لم تكن زائدة دودية، بل قرحة معوية متفجرة. أعادوه فورًا إلى غرفة العمليات بعد أن وقّعت أوراق رفع المسؤولية مع زوجته، وأنا في العشرينات، مذهول لا أفكر سوى بإنقاذه. العملية الثانية كانت شاقة، بطنه مليء بالتهابات وعصارة المعدة. بأعجوبة خرج منها حيًا، وبقي عشرين يومًا يعاني تنظيف الجراح واستخراج القيح يوميًا. في اليوم الثالث والعشرين، وقبل أن يشفى، قرر العودة لتلاميذه. قاد سيارته نحو تمنين، لكن القدر كان له بالمرصاد. قرب مستشفى العبدالله في رياق، اصطدم محامٍ من زحلة بسياره يوسف. ومات يوسف على الفور… كما ابتُلعت السمكة الصغيرة بعد ساعات من صيدها. رحل يوسف، تاركًا ابنتين، ربى وبتول، كزهرتين نقيّتين، واظبت زوجته سلام على تربيتهما أجمل تربية، تحفظان القرآن وترتلانه. كبرت الطفلتان وتزوجتا وصارتا أمّهات، فيما واصلت سلام مسيرتها مناضلة، معلمة ومربية في مخيم الجليل، تحفظ النساء القرآن وتغرس فيهن الإيمان. ثم جمعتها الحياة مجددًا بأخ المرحوم يوسف، الأستاذ فادي، لتبني معه أسرة جديدة، صافية كقلبيهما وفادي الذي كان مثالا للرجوله والتضحية والوفاء والاب الصالح لبتول وربى مثل اولاده تماما. يوسف لم يكن رجلًا عاديًا. كان عاشقًا للعلم والدين، سافر إلى دمشق ليحضر دروس العلامة الشيخ محمد سعيد رمضان  في مسجد تنكز، كل اثنين وخميس أثناء دراسته الرياضيات في جامعه دمشق. لم يكن يدري أن شيخه سيُستشهد بعد سنوات بانفجار دموي في دمشق. وكأن يوسف كان دائمًا يعرف أن الطريق قصير، وأن النهاية تسبقنا أحيانًا. أستعيد ضحكاته، نكاته، جلساتنا في دمشق. مرة قلت له: “شو رأيك نترك التدخين؟” فضحك وقال: “بدك تترك؟ اترك لحالك. أنا بدخن عن مبدأ.” ومنذ أربعين عامًا، كلما اشتريت علبة سجائر جديدة، رددت جملته. كانت غرفة صغيرة في مخيم الجليل تجمعنا. نحلم بالعودة، نغني أغاني فيروز على ضوء الشموع، نطيل المدّ في كلماتها لنضيف النكهة والمرح. من بين الأغاني التي لا تغيب عن ذاكرتي “عنبية”… كان يوسف يحتفظ بكتاب فيه كلمات الأغاني ونوتاتها، هدية من صديقة أيام الثانوية. لم نعرف العزف يومًا، لكننا كنا نغني وكأن الحياة ستبقى للأبد. رحل يوسف. ترك لي حملاً من الذكريات أثقلني لعقود. حاولت الهرب منه، لكن جملته تطاردني: “بدي أطلع من حالي.” وها أنا اليوم، أكتب لأخفف هذا الحمل، لأقول لعائلته، لبناته، لأصدقائه: يوسف عاش معنا، وما زال يعيش فينا. كان كسمكة صغيرة تحدت الموت ساعات، لكنها رحلت في النهاية إلى بحر أوسع. رحمك الله يا صديقي يوسف… أيها المضيء كالياسمين، أيها الحاضر في الغياب. حسين عبدالله جمعة سعدنايل – لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب