تحقيقات وتقارير

حين يُصبح العنف ضرورة للسيادة: في مشروعية المقاومة الشعبية المسلحة

حين يُصبح العنف ضرورة للسيادة: في مشروعية المقاومة الشعبية المسلحة

منذ أن صاغ ماكس فيبر مفهوم الدولة باعتبارها الكيان الذي يحتكر «العنف المشروع» ضمن حدودها، بات هذا التعريف أشبه بمسلّمة في الفكر السياسي الحديث.

كريم حداد

«المستعمَر لا يفهم إلا لغة العنف، لأنها اللغة الوحيدة التي فُرض بها عليه وجوده».
فرانتز فانون، «معذبو الأرض»

منذ أن صاغ ماكس فيبر مفهوم الدولة باعتبارها الكيان الذي يحتكر «العنف المشروع» ضمن حدودها، بات هذا التعريف أشبه بمسلّمة في الفكر السياسي الحديث.

غير أن هذا الاحتكار المفترض، حين يوضع في سياق الدول ما بعد الكولونيالية، والدول القامعة، والدول الوكيلة للاحتلال، يكشف عن تناقض جوهري: هل ما يُحتكر هو «العنف المشروع» فعلاً، أم أن المشروعية نفسها خاضعة لهيمنة تاريخية استعمارية تُعرّف السيادة بحسب مصلحة المركز، لا بحسب كفاح المحيط؟

في ضوء هذا السؤال، تُطرح مشروعية المقاومة الشعبية المسلحة لا بوصفها خرقاً للقانون، بل باعتبارها فعلاً تأسيسياً جديداً للسيادة، كما ذهب إلى ذلك أميكلار كابرال حين رأى أن النضال المسلح هو شرط لإعادة ولادة الدولة الوطنية في مواجهة الاستعمار.

أما فانون، فذهب أبعد من ذلك: المقاومة المسلحة ليست فقط تفكيكاً لسلطة استعمارية، بل تحرر نفسي – وجودي يُعيد للمقهور إنسانيته المنزوعة.

بين الدولة والمقدَّس المباح

يرى جورجيو أغامبين أن الدولة الحديثة تُنتج شكلاً جديداً من البشر الذين تُسحب عنهم الحماية القانونية والسياسية، ويسمّيهم homo sacer: كائن يمكن قتله من دون أن يُعد قتله جريمة، ولا يُعد موته تضحية. في زمن الاحتلالات، أو في ظل دول وظيفية خاضعة لقوى استعمارية جديدة، يُدفع جزء من الشعب إلى هذه الحالة: حيث يُقتل المقاوم بلا مساءلة، ويُسجن الناشط بلا محاكمة، ويُلاحق المنفي بلا تهمة.
في هذا السياق، تصبح المقاومة المسلحة فعلاً مضاداً لعنف الأصل؛ لا لأنها تنفي القانون، بل لأنها تفضح زيفه، وتُعلن عودة الشعب إلى السياسة من خارج منطق الاستثناء.

في كتابهما المشترك، يشير جين وجون كوماروف إلى أن ما بعد الكولونيالية لا يعني نهاية الاستعمار، بل إعادة إنتاجه عبر دولة جديدة تتموضع بين القمع الداخلي والتبعية الخارجية.

هذه الدولة، في كثير من الأحيان، تمارس عنفاً «شرعياً» – قانونياً، مؤسسياً، دولياً – لكنه يفشل في تمثيل شعبها أو الدفاع عنه. وهكذا، يجد المقاوم نفسه أمام عدو مزدوج: دولة تشرعن القمع، واحتلال يؤبّد التبعية.

في مثل هذا المشهد، تصبح المقاومة المسلحة مواجهة مزدوجة ضد القوة الاستعمارية الأصلية وضد بنيتها المحلية الوكيلة، كما في تجربة الجزائر، أو فلسطين، أو جنوب أفريقيا. وهي بذلك استعادة للحق في تعريف السيادة من الأسفل، من الميدان، لا من المعاهدة.

من عنف الدولة إلى عنف التحرر

في كتابه «معذبو» الأرض، يتحدث فرانتز فانون عن «فعالية العنف الثوري» في تفكيك المستعمر وفي إعادة بناء الذات المستعمَرة.

العنف، وفقاً لفانون، ليس فقط ردّاً على الإخضاع، بل هو فعل وجودي. إنه صرخة من تُركوا خارج التاريخ، خارج الخطاب، خارج القانون.

أما أميكلار كابرال، المفكر والمناضل في غينيا – بيساو، فقد أكّد أن استعادة السيادة ليست مجرد استعادة لعلم أو نشيد، بل هي «تفكيك لبنية التبعية» التي أقامها المستعمر، ولا يمكن هدمها إلا عبر مقاومة واعية وموحدة.

ولذا دعا إلى الربط بين الوحدة الوطنية والنضال المسلح، ورأى فيه طريقاً لإنشاء دولة سيادية حقيقية، لا مجرد كيان تابع شكلياً.

التباس المفاهيم بين «الإرهاب» و«المقاومة» لم يكن يوماً بريئاً. من الجزائر إلى فيتنام، ومن هاييتي إلى فلسطين، سعت القوى الاستعمارية ومعها أنظمتها الوكيلة إلى نزع الشرعية عن أي مقاومة شعبية مسلحة، ووسمها بالتطرف أو الفوضوية. لكن قراءة أنثروبولوجية للنظام الدولي، كما يُفككها كتاب The Anthropology of the State، تُظهر أن الدولة نفسها تُنتج الاستثناء، وتُشَرعن عنفها، وتُقصي من يقاوم خارج أدواتها.

في المقابل، المقاومة الشعبية تعيد تعريف الشرعية من موقع الشعب، لا من موقع القانون. هي «قانون خارج القانون»، لكنها ليست فوضى، بل تنظيم واعٍ وموجه لاستعادة الحق في تقرير المصير.

حين يصير العنف صوت السيادة

في زمن تتكاثر فيه الدول الفاشلة، وتتحول فيه السيادة إلى قشرة قانونية تخدم القوى المسيطرة، تبرز المقاومة الشعبية المسلحة لا كخيار طائش، بل كخيار أخلاقي، قانوني، وضروري في وجه القهر المنظم والاحتلال المستدام. ليست المقاومة فعل عنف، بل إعلان سيادة، استعادة لغة، وبداية خطاب جديد.

ففي لحظة يصبح فيها الإنسان homo sacer، لا يبقى له إلا أن يصنع قانوناً جديداً بيده، بالدم إن لزم الأمر، ويقول: أنا هنا… وهذا وطني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب