عبد علي حسن – اثر التكنولوجيا في رواية مابعد الحداثة

عبد علي حسن – اثر التكنولوجيا في رواية مابعد الحداثة
* الرواية صنيعة المدينة ، وهي كما أشار الناقد المجري (جورج لوكاتش) ابنة المدينة ، فقد تجذرت هذه العلاقة البنيوية بينهما منذ ظهور المدينة الحديثة في القرن التاسع عشر، نتيجةً لتحولات اجتماعية واقتصادية عميقة ، اذ ساهمت الثورة الصناعية في أوروبا في تحويل المجتمعات الزراعية إلى مجتمعات حضرية ، فولدت من رحم الملحمة التي ارتبط وجودها بالمجتمع الزراعي / الإقطاعي ، حيث انتقلت أعداد كبيرة من السكان إلى المدن بحثًا عن فرص العمل في المصانع ، ولم يكن هذا التحول مجرد تغيير في المكان، بل كان له تأثيرات عميقة على البنية الاجتماعية والثقافية ، فمع ظهور المدينة الحديثة بدأت تتشكل طبقات اجتماعية جديدة، مثل الطبقة العاملة والبرجوازية، مما أدى إلى صراعات اجتماعية طبقية جديدة دفعت الأدباء والكتّاب الى المساهمة في بلورة شكل جديد من الأدب يتناسب ويعبّر عن تلك الصراعات ، فكانت الرواية كفن أدبي جديد ، وأصبحت وسيلة للتعبير عن التغيرات الاجتماعية والنفسية التي شهدتها المجتمعات الحضرية . اذ تعكس الروايات التحديات التي واجهها الأفراد في المدن الحديثة، مثل alienation (الاغتراب) والضغط الاجتماعي. كما أن المدينة كانت بيئة خصبة للأحداث والشخصيات المتنوعة، مما أضفى عمقًا على السرد الروائي ، وبفضل هذه العوامل أصبحت الرواية وسيلة لتوثيق تجارب الناس في المدينة الحديثة، مما ساعد على تشكيل الوعي الاجتماعي والثقافي. وعلى مر العقود، أصبحت الرواية تعكس تعقيدات الحياة الحضرية، مما جعلها أداة مهمة لفهم التحولات الاجتماعية والسياسية ، وبهذا يمكن القول إن ظهور المدينة الحديثة كان له تأثير عميق على الأدب، حيث ساهم في تشكيل وظهور فن ادبي جديد وهو الرواية لتعكس التغيرات الاجتماعية والنفسية في المجتمعات الحضرية ، ولعلّ للتطور التكنولوجي دوراًحاسماً في ظهور المدينة الحديثة، ويمكن تلخيص هذا الدور في النقاط التالية:
1 — قيام الثورة الصناعية التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، حيث أدت الابتكارات التكنولوجية في مجالات مثل الآلات البخارية والنسيج إلى زيادة الإنتاجية ، مما أدى إلى انتقال السكان من الريف إلى المدن بحثًا عن فرص العمل.
2 — التطور الحاصل في البنى التحتية كتطور وسائل النقل مثل السكك الحديدية والعربات الكهربائية التي ساهمت في ربط المدن ببعضها، مما سهل حركة الناس والبضائع ، كما أدت تحسينات في البنية التحتية مثل الطرق والجسور إلى تسريع عملية التحضر ،
3 — كما أسهمت التقنيات الحديثة كتقنيات البناء مثل الصلب والخرسانة في إنشاء مبانٍ أكبر وأكثر تعقيدًا، مما غير شكل المدن وأدى إلى زيادة الكثافة السكانية.
4 — أما التطورات الحاصلة في الاتصالات، مثل الهاتف والتلغراف ، فقد اسهمت في تسريع تبادل المعلومات، مما جعل إدارة المدن أكثر كفاءة وساعد في تنشيط النشاط الاقتصادي.
5 — أدى التقدم التكنولوجي في المجالات الخدمية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي إلى تحسين جودة الحياة في المدن التي جذبت المزيد من السكان إلى المدينة .
6 — وفي القرن العشرين ومفتتح القرن الحادي والعشرين فقد كان للتكنولوجيا الرقمية وعبر التقنيات الرقمية التي اصبح جزءًا لا يتجزأ من الحياة الحضرية المعاصرة ، الأمر الذي أدّى إلى ظهور مدن ذكية تعتمد على البيانات لتحسين الخدمات الحضرية .
بذلك يمكن القول إن التطور التكنولوجي كان محركًا رئيسيًا في تشكيل المدينة الحديثة، وجعلها بيئة أكثر تعقيدًا وثراءً من النواحي الاجتماعية والاقتصادية.
واذا ماتعاملنا مع المدينة كفضاء مكاني شامل لايتضمن فقط المظاهر الفيزيائية والمعمارية بل يتعدى ذلك إلى ما أفرزته صيرورات المدينة من ظواهر اجتماعية وثقافية وسياسية ، فإننا وبلا شكّ سنتلمس الأثر الواضح لتلك الصيرورات في تبني الرواية للمشاكل التي تولّدت عبر التواتر المرحلي لكل صيرورة جديدة للمدينة ، ولن يتوقف الأمر عند هذا المستوىٰ من تمثّل الرواية للظواهر التي ولدت في رحم ذلك الفضاء المتسع و المتواتر وانما تجاوز ذلك إلى أثر تلك الصيرورات في محايثة الرواية للتقنيات والٱليات الفنية التي وسمت كل صيرورة اجتماعية مرت بها المدينة عبر المرحلة الكلاسيكية ومابعدها واعني بها الحداثة ومابعد الحداثة ، لذا فإننا لن نضيف شيئاً اذا ماتحدثنا عن إحاطة الرواية منذ نشأتها لحد الٱن بالمشاكل الوجودية للفرد والجماعة في ظل نشأة المدينة الحديثة وأثرها في ظهور موضوعات جديدة ارتبطت بالإصطفاف الطبقي الجديد الذي ظهر وتطور مع الفضاء المديني الذي أفرز جملة من الظواهر الاجتماعية والإقتصادية وحتى السياسية فتشكّلت المنظومة الفكرية للرواية على امتداد صيروراتها المتراتبة ، وعليه فسيكون جل جهدنا ينصبُّ في الكشف عن أثر تحولات المدينة على تقنيات وٱليات الإشتغالات الفنية الرواية ، إذ يمكن ملاحظة
التطور الحاصل في أساليب وأشكال السرد الروائي ارتباطًا بتحولات المدينة الحديثة ، ويمكننا تأشير هذه التطورات التي مجملها وكما يلي :-
1. مع تعدد الشخصيات والطبقات الاجتماعية في المدينة، أصبح السرد الروائي يتضمن وجهات نظر متعددة دفعت الروائيين إلى استخدام تقنيات جديدة مثل السرد المتعدد الرواية لتقديم تجارب مختلفة من الحياة الحضرية الجديدة
2 : تأثرت الرواية بالواقعية كمدرسة أدبية، حيث ركز الكتاب على تصوير الحياة اليومية والتحديات الموجودة في المدن للكشف عن الصراع الذي يخوضه الفرد في ظل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة ، إذ ساعد هذا التوجه في إظهار تفاصيل الحياة الحضرية بشكل دقيق.
3 : تطورت أساليب السرد من خلال استخدام تقنيات مثل الفلاش باك ، مما أتاح للكتاب استكشاف تأثير الزمن على الشخصيات والأحداث في السياق الحضري.
4 : تعكس الروايات الحديثة شعور الاغتراب الذي يشعر به الأفراد في المدينة، حيث تُظهر الشخصيات وهي تتعامل مع الضغوط الاجتماعية والنفسية والإقتصادية .
5 :- وعلى مستوى الأسلوب الداخلي فقد استخدم الكتاب تقنيات مثل تيار الوعي، مما سمح للقارئ بالدخول إلى أفكار الشخصيات ومشاعرها، مما يعكس تعقيدات الحياة الحضرية.
6:- كما أصبحت العناصر الرمزية في الرواية تعكس التحولات الاجتماعية والسياسية في المدن، حيث يمكن أن تمثل الأماكن والبيئات تجارب شخصية أو قضايا مجتمعية أكبر.
بهذه الطرق وسواها فقد تطور السرد الروائي ليعكس التغيرات والتحولات التي شهدتها المدن الحديثة .
رواية ما بعد الحداثة :–
نشأت رواية ما بعد الحداثة كاستجابة للتغيرات الجذرية في المجتمع والثقافة التي نتجت عن العولمة الغربية ، إذ اقترح عالم الاجتماع البولوني الأصل زيجموند باومان تسميتها بالحداثة السائلة ،
فقد أدّت العولمة إلى تداخل الثقافات وانتشار المعلومات بشكل سريع. هذا التداخل أثر على الرواية، حيث أصبحت المواضيع أكثر تنوعًا وتعقيدًا ، فتناولت الروايات قضايا الهوية والانتماء، مستكشفة كيف تتشكل هذه الهوية في عالم متغير يتّسم بالسيولة ، وهو مفهوم يرتبط بالحياة السائلة وفق ماذهب إليه زيجموند باومان ، ويشير إلى انعدام الثبات في العلاقات والهيكليات الاجتماعية ، فكانت الرواية ما بعد الحداثية تعكس هذا الطابع السائل/ اللاثابت من خلال شخصيات غير مستقرة، وأحداث غير متوقعة، وسرد غير خطّي ، فقد اصبحت المدن مراكزاً للتنوع والتغيير السريع، مما أثر في الكتابة الروائية باتجاه تناول الحياة المدينية ومايحصل فيها من تكريس للهوية الجديدة للفرد / الإستهلاكية على جميع المستويات ، مشيرة إلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه الأفراد في الوضع الاقتصادي الجديد ،
أمّا أسلوب الكتابة في روايات ما بعد الحداثة فإنه يميل إلى التجريب، حيث يتم استخدام تقنيات مثل التداخل الزمني، وتفكيك
السرد، وتداخل الأنواع الأدبية ، لذا فإن هذه الرواية نشأت من تفاعل معقد بين العولمة ونتائجها كظهور مظاهر عدم الثبات واللايقين ، مما أدى إلى تطوير أشكال جديدة من السرد تعكس هذه التحولات ، فقد تميزت الشخصيات بعدة سمات فريدة تعكس التعقيد والتغيرات في المجتمع السائل ومن هذه السمات ، ان الشخصيات غالبًا ما تكون غير مستقرة، تتغير هوياتها وأدوارها مع تطور الأحداث ، اذ تمثل الشخصيات مجموعة متنوعة من الخلفيات الثقافية والاجتماعية، مما يعكس التداخل الثقافي في العالم المعاصر ، فكانت هذه الشخصيات تعاني من شعور بالانفصال أو العزلة عن العالم من حولها، مما يعكس التحديات في علاقتها مع ذاتها والمحيط ، كما أنها — الشخصيات – تميل إلى تحدي التصنيفات الثابتة مثل الجنس والعرق، مما يساهم في تقديم رؤية أكثر تعقيدًا للهوية ، فضلاً عن تداخل الشخصيات مع شخصيات أخرى ، الأمر الذي أدّى إلى ظهور السرد غير الخطي الذي يتطلب مساهمة القاريء في فهم العلاقات والأحداث ، وفي عالم متغير وغير مستقر تعكس الشخصيات قضايا وجودية تتساءل عن معنى الحياة والهدف منها .
هذه السمات تجعل الشخصيات في روايات ما بعد الحداثة أكثر تعقيدًا وواقعية، مما يعكس التحديات المتعددة التي يواجهها الأفراد في العصر الحديث.
ولعل مايميز رواية ما بعد الحداثة انها تحمل ميزات تقنية تميزها عن الروايات التقليدية السابقة ، ومن أبرزها أنها تتبع تركيباً زمنياً غير متسلسل مما يتيح القاريء التنقل بين الأزمنة والأمكنة بحرية ، كما أنها شهدت مزيجاً وتداخلاً بين انواع أدبية مختلفة ، مثل الخيال والواقع ، والنقد الإجتماعي ، مما يخلق تجربة قراءة متعددة الأبعاد ،
كما تميزت لغة هذه الرواية بالابتكار واعتمادها التجريب واللعب بالالفاظ والأساليب اللغوية مما يعزز التجربة الجمالية للنص ، كما ظهرت رواية الميتاسرد / رواية الإنعكاس الذاتي التي تعتمد تكسير السرد التقليدي عبر استخدام الوثيقة والسرديات الأخرى من مذكرات يوميات وسيرة وحوارات داخلية وتداخل الأفكار والإشارات إلى النصوص الأخرى المتنافذة / المتداخلة ، لتجعل المتلقي واعياً لعملية القراءة والتأليف ، فضلاً عن تضمين الرواية أشكالاً غير تقليدية مثل الرسوم التوضيحية والنصوص المتقطعة أو ادراج عناصر من فنون أخرى ، وعدت هذه التقنيات من عوامل التجريب الشكلي ، أما نهايات هذه الروايات فغالباً ماتكون مفتوحة أو غامضة ، مما يترك المجال لتفسيرات وتأويلات متعددة تعكس عدم اليقين في العالم الحديث ، وتجدر الإشارة الىٰ مشروع الرواية الفرنسية الجديدة روادها مثل ميشيل بوتور وٱلان روب غرييه الذي كان له الفضل في ظهور الرواية الشيئية وناتالي ساروت وٱخرين ، كما وظهر تأثير موجهات هذه الرواية في الفن الروائي في المجتمعات الأوروبية ومن خارج جغرافية الحداثة الأوربية أيضا ومنها المجتمع العربي .
أن هذه الميزات التقنية تساهم في خلق تجربة قراءة فريدة ومعقدة، تعكس التغيرات في الثقافة والمجتمع في عصر ما بعد الحداثة ، أو عصر الحداثة السائلة .